وقد استدلوا على ذلك بقول الله -تعالى – : ﴿ فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۭ (١١) بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا يَذۡكُرُونَ (١٣) ﴾ الصافات.
لا يبدو في الآية الكريمة أي شئ مُلفتًا للنظر.
لكن أراد البعض أن يصفوا الله بأنَّه يتعجب؛ فلم يتركوا بيان المعنى، ودلالته القاطعة البيِّنة فأتوا بتحريف عجيب؛ ذلك حين حرفوا الكلم عن بعض موضعه ليغيروا المراد من الآية؟!
كيف فعلوا ذلك؟!
بعضهم حين يقرأ قول الله – تعالى – : ﴿ بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ ﴾ يقرأه: (بل عجبتُ) بضم حرف التاء في لفظ: (عجبت)!
لماذا فعلوا ذلك، وهم يعلمون أنهم يُغيرون في كلام الله؟!
ليُظهروا للناس أنَّ المعنى قد دلَّ على أنَّ الله هو من تعجب، وليس الرسول!
هم يريدون أن يصفوا الله بأنَّه يتعجب وحسب؛ فغيروا نطق اللفظ (عجبتَ) إلى (عجبتُ)!
ويقولون: إنَّ ذلك في إحدى القراءات!
إنَّه لشئ عجيب أن يغير البعض في حروف القرءان، أوطريقة نطقها؛ فيتغير بذلك المعنى (لا محالة)؛ ثم ينفون أنَّهم يحرفون القرءان، ويزعمون أنَّ ذلك من عند الله؟!
وإذا بحثوا في القرءان على ما يدل على صدق زعمهم هذا؛ فلن يجدوا في كتاب الله أنَّ الله يبدل كلامه.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) ﴾ الأنعام
أين في كتاب الله ما يقول: إنَّ الله يتعجب، أو أنَّ التعجب يُمكن أن يُنسب لله – تعالى – ؟!
بل لن يجدوا ذرة من عقل توافق ما يزعمون من أنَّ الله يتعجب.
أو توافق ما فعلوه من تحريف لكلام الله حين غيروا قوله – عز وجل – من: ﴿ بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ ﴾ التي عادت على النبي – عليه الصلاة والسلام – لأنه هو الذي تعجب؛ إلى: (بل عجبتُ) لتعود على الله – تعالى – !
لماذا ننفى أنَّ الله يتعجب؟
لأن التعجب شعور ينشأ في النفس نحو شئ لم يتوقعه الإنسان؛ لأنه لم يستوعب ذلك الفعل، أو لأنه لم يتوقع حدوثه.
كذلك حين ننظر إلى معنى الصفة التي تُنسب لله من خلال ءايات القرءان الكريم؛ يتبين لنا من تدبر الآيات أنَّ التعجب ليس من صفات الله التي تُنسب له، أو نسبها لنفسه.
فالتعجب ليس كصفة الرحمة، أو القدرة، أو الكرم التي لها ءاثارها في الخلق.
ما هي مشاعر التعجب؟
التعجب مشاعر متغيرة تنشأ في نفس الإنسان، وبعض المخلوقات، ولأنَّ التعجب مشاعر متغيرة في النفس؛ فلا ينبغي لأحد أن يصف اللهَ – تعالى – بأنَّه يتعجب!
إنَّ التعجب ينشأ في النفس نتيجة رد فعل من بعض المخلوقات حين يُفاجئه أمر لم يعلمه من قبل؛ ولم يتوقع حدوثه؛ وهذا لا يجوز في حق الله – تعالى – عالم الغيب.
ويُمكن أن نستدل على معنى التعجب من خلال بعض الآيات الكريمة
قال اللهُ – جل وعلا – : ﴿ وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ (٧١) قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ (٧٢) ﴾ هود.
لقد تعجبت زوج إبراهيم – عليه السلام – وكان تعجبها ليس نفيًا لِمَا سمعت؛ إنما كان سبب تعجبها أنَّها لم تتوقع أن تلد وهي عجوز؛ حيث بدا ذلك في نفسها شئ خارق للعادة.
ولكنَّها صدقت بكلمات ربها؛ لأنَّها تؤمن بأنَّ الله على كل شئ قدير.
فالتعجب لا يعنى النفي في كل الأحوال (وهذا هام للغاية).
وفي قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ (٥) ﴾ ص.
لقد ظهرت مشاعر التعجب لديهم؛ لأنَّهم لم يتوقعوا أنَّ الرسول بشر مثلهم، وعجبوا أكثر حين بين لهم الرسولُ أنَّ الله إله واحد (لا ءالهة معه) فأثار ذلك في أنفسهم مشاعر التعجب.
القرءان يُبين لنا ببلاغته مشاعر التعجب التي لا يُمكن أن تكون من صفات الله – جلا وعلا -.
ومن زعموا أنَّ الله يتعجب؛ أقول لهم: إذا تدبرتوا القرءان؛ لن تجدوا فيه: (ما يدل على أنَّ الله يتعجب، أو أنَّ التعجب من صفات الله).
كيف يكون التعجب من صفات الحق الذي لا تتغير صفاته؛ بينما التعجب مشاعر متغيرة؟!
إنه ينشأ في النفس بسبب رد الفعل تجاه شئ غير متوقع (سواء بالنفي، أو بالتصديق).
لذلك لا ينبغي أن يتم وصف الله – تعالى – بأنَّه يتعجب من شئ لم يتوقعه، واللهُ أحاط بكل شئ علمًا.
أجعلتم لله مشاعرًا متغيرة مثل ما للبشر؟!
ألا تعلمون أنَّ الله أحاط بكل شئ علمًا.؟!
لماذا تحرفون قول الله – تعالى – : ﴿ بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ ﴾ وتقولون: (بل عجبتُ ويسخرون)؟!
إنَّ الله يصف مشاعر النبي، ورد فعل المشركين؛ هذا ما نتبينه من الآية الكريمة؛ وهذا ما يتوافق مع قواعد البيان (اللسان العربي المبين).
إنَّ الله – تعالى – الذي أحاط بكل شئ علمًا لا يصف نفسه بأنَّه (هو) من تعجب (هذا مخالف للآية).
ولكن لفظ: (عجبتَ) كان يُبين وصف الله – عز وجل – لمشاعر النبي – عليه الصلاة والسلام – الذي بدا أنَّه (أي النبي) تعجب حين علم أنَّ الله خلقهم من طين لازب؛ لأنَّه لم يتوقع ذلك.
أما الكافرون فقد سخروا من أنَّهم خُلقوا من طين لازب.
ذلك ما نتبينه من قول الحق: ﴿ فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۭ (١١) بَلۡ عَجِبۡتَ وَيَسۡخَرُونَ (١٢) ﴾ أي عجبت أيه النبي حين علمت أنهم خُلقوا من طين لازم، وهم سخروا حين علموا ذلك.
تعجب النبي – عليه الصلاة والسلام – لم يكن نفيًا لِمَا علمه عن خلق البشر من طين لازب، أو ردًا لقدرة الله – تعالى – ولكن كان تعجبه مثل ما تعجبت زوج إبراهيم – عليه السلام – من أنها ستلد وهي عجوز.
تعجبها لم يكن نفيًا لحدوث ذلك؛ فهي تُؤمن بأنَّ الله على كل شئ قدير، ولكن تعجبت لأنَّها لم تتوقع قبل هذه البشرى؛ أن تلد وهي عجوز (كان الأمر ماجئًا لها).
إذًا التعجب هو: مشاعر تنشأ في النفس تدل على أنَّ صاحبها لم يتوقع حدوث الشئ؛ فتعجب من حدوثه.
وذلك نتبينه من قول الله – تعالى – : ﴿ قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ (٧٣) ﴾ هود.
هي حسب بلاغة الآيات لم تُنكر حدوث الحمل، وأن تلد وهي عحوز، ولكن لم تتوقع ما بُشرت به من الملائكة.
ذلك لأن الله عالم الغيب يعلم ما في نفس زوج سيدنا إبراهيم؛ إنها لم تنكر حدوث ذلك، ولكنها تعجبت من حدوثه لذلك جاء القول: ﴿ أَتَعۡجَبِينَ ﴾.
والله أعلم