حين يصف الله ـ تعالى ـ اللسان العربي الذي نزل به القرءان بأنه مبين؛ فإننا نستنبط من هذا أن هناك لسان عربي غير مبين؛ ألا وهو الَّهجات العربية التي اختلطت فيها معاني بعض الألفاظ بشكل لا يتوافق مع اللسان العربي المبين الذي نزل به القرءان.
لهذا علينا أن نفرق بين اللسان العربي (الَّهجات العربية) الذي يختلف الناس حول معاني بعض ألفاظه، وبين اللسان العربي المبين الذي نزل به القرءان، الذي يحوي الدلالات الحقيقية للألفاظ كما هي في علم الله الذي أحاط بكل شيء علمًا.
فلنستنبط المعنى المراد من الآية كما هو دون اختلاف، أو تقدير، أو تأويل؛ علينا في حال اختلفت دلالة لفظ في القرءان عن دلالته في اللسان العربي (الَّهجات العربيه) أن نأخذ الدلالة التي جاءت في القرءان الكريم، وليس الدلالة التي جاءت في الَّهجات العربيه.
لأن الله أعلم بكتابه، وما يحتويه من ألفاظ، ودلالاتها.
إن القول الفصل، والمعنى الثابت الذي لا يتغير؛ هو ما جاء في كتاب الله.
ما المراد بلفظ: (مبين)؟
الذي يحوي الألفاظ العربية (الأصلية)، ودلالاتها الحقيقية الدقيقة، والثابتة (التي لا تتغير) .
دقة المعنى، وثباته هما السبيل لتبين المُراد من ءايات الله دون أن يختلف الناس فيها.
أمَّا الَّهجات العربية؛ فهي ما يُطلق عليه: (اللسان العربي) وفيها ألفاظًا أُستحدثت مع مرور السنين (بعد سيدنا ءادم) واختلفت دلالات بعض ألفاظها عن القول الحق.
من أمثلة ذلك اختلاف دلالة اللفظ في الَّهجات العربية، عن دلالته في اللسان العربي المبين؛ دلالات ألفاظ: (الجسد، والجسم، والبدن).
كيف ذلك؟
الثلاثة ألفاظ في الَّهجات العربية تـُشير إلى الإنسان سواء كان حيًا، أو ميتًا..وتُشير إلى الشمس مثلًا، والسفينة..
في الَّهجات العربية (اللسان العربي): يتم وصف الإنسان الحي، أو الميت بلفظ: (الجسد) فيكون القول: (جسد الإنسان).
وكذلك يُطلق لفظ: (البدن) على الإنسان الحي، والميت، وعلى السيارة..
ولا يختلف الشئ بالنسبة للفظ: (الجسم) حيث يُطلق في الَّهجات العربية على الإنسان الحي، والميت، وعلى: جسم السفينة، أو السيارة..
لكن حين نتدبر القرءان لنستنبط دلالة كل لفظ منهم؛ نجد لكل لفظ دلالة خاصة به تصف شيئًا مُحددًا بإحكام، فلا يشترك معه اللفظان الآخران في الدلالة أو الوصف.
ما دلالة الجسد في القرءان؟
الجسد هو ما ليس به حياة (أبدًا) كالتمثال (عجل السامري الّذي صنعه من الحلي).
كما أنَّ الله – تعالى – نفى أنَّ النبيين جسدًا لا يأكلون الطعام.
وذلك دليل ءاخر على أنَّ الجسد هو الشئ غير الحي الذي لا يأكل الطعام.
وماذا عن الجسم؟
الجسم هو وصف لِمَا به حياة (يأكل، ويشرب) وليس التمثال، أو الإنسان بعد موته.
والجسم من التجسم، والتغير الذاتي عن طريق النشأة، وذلك لا ينطبق على الملائكة؛ لذلك الملائكة ليست أجسام تكبر مع السنين؛ ثم تفقد قوتها.
وما الدليل من القرءان على أنَّ الجسم هو من يأكل الطعام، وأنه لا يصف التمثال، أو الإنسان بعد موته؟
لفظ: (الجسم) جاء في القرءان مرتين، وفي كليهما أشار إلى الإنسان الحي..
إحداهما؛ في قول الله – تعالى – : ﴿ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ ﴾ من الآية (٢٤٧) البقرة؛ وهي عن طالوت الذي اصطفاه اللهُ ملكًا على قومه.
ماذا عن: البدن؟
في الَّهجات العربية لفظ: (البدن) يُشير إلى الإنسان الحي، والميت على حد سواء، مثل قولهم: إنَّ البدن هو الجسد بدون الأطراف.
لكن ذلك لا يتوافق مع القرءان الكريم،
مما أثار شكوكًا حول موت فرعون؛ وجعل البعض يُشكك في كتاب الله مُدعين أنَّه كتاب بشري ذلك حين ظنوا أنَّ البدن يصف الإنسان الحي!
فظنوا أنَّ نجاة البدن تعني نجاة فرعون، وبالتالي: عدم موته في البحر؟!
ولكن حين نتبين معنى لفظ: (البدن) من القرءان (الذي نزل بلسان عربي مبين) نجده قد أشار بلفظ: (البدن) إلى الجسم بعد موته (الجسم، وليس الجسد) .
قول الله – تعالى – : ﴿ فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ (٩٢) ﴾ يونس.
لم يأتِ في الآية لفظ: (الجسم) الذي يدل على الحي، ولا لفظ: (الجسد) الذي يدل على ما لا يأكل الطعام كالتمثال.
ولكن ومن بلاغة القرءان الكريم، دقة ألفاظه؛ جاء لفظ: (البدن) الذي يصف الإنسان بعد موته (البدن هو الجسم بعد موته بهروج النفس بالموت) .
قال الحق: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) ﴾ الحج.
﴿ الْبُدْنَ ﴾ جمع: (البدن) وقد وصفت الأنعام بعد ذبحها؛ بعد أن كانت أجسامًا حية؛ صارت كل واحدة منها بدنًا.
ذلك يبين لنا كذلك وبدقة بالغة موت فرعون؛ فكان مجئ لفظ: (البدن) لوصف فرعون وليس: (الجسم) أو (الجسد) دليلًا على موته.
ذلك من إحكام الله لآياته، والذي يدل على أنَّ كل لفظ في القرءان له دلالته التي قد لا تكون له في الَّهجات العربية.
فحين نُعطي كل لفظ من الألفاظ الثلاثة دلالته الدقيقة كما هي في اللسان العربي المبين (الذي نزل به القرءان) وليس كما هو المعنى في الَّهجات العربية؛ سنتمكن بإذن الله من إثبات أنَّ نجاة بدن فرعون لم تعنِ أنَّ فرعون نجا من الموت؛ بل نجاة بدنه (وهو الجسم بعد الموت) كانت نجاة من أن يهلك (بدن فرعون) في ماء البحر.
وألقاه اليم (كاملًا) على الساحل؛ ليتيقن كل إنسان كان يتتبع فرعون، أو يتتبع أمره حين كان يطارد سيدنا موسى أنه مات؛ ولم يكن إلهًا كما كان يزعم.
هذا من دقة الألفاظ، وثبات دلالاتها في اللسان العربي المبين الذي نزل به: (القرءان الكريم).
وحين نقارن تلك البلاغة باللسان العربي (الَّهجات العربية) التي قد تختلف دلالة اللفظ من لهجة لأخرى؛ نتبين أنَّ القرءان هو خير ما نستنبط منه دلالات ألفاظه، وليس الَّهجات العربية البشرية التي تختلف فيما بينها.
إذًا اللسان الوحيد الذي يمكنه أن يُفَصِّل ءايات الله، ويُبينها كما أراد الله ـ تعالى ـ ؛ هو اللسان العربي المبين، وليست الَّهجات العربية التي قد لا تتوافق دلالة اللفظ فيها مع دلالته في القرءان الكريم.
فحين اختلطت دلالة لفظ: (البدن) في الَّهجات العربية مع لفظي: (الجسم، والجسد) بما لا يتوافق مع دلالة كل لفظ منهم في القرءان؛ اختلطت الأمور، وطعن البعض في الآيات.
لكن حين تبينا الأمر من القرءان أستيقنا أنَّ فرعون غرق، ومات بالفعل؛ لأن نجاة البدن ليست نجاة للجسم الحي.
ذلك لأن كلام الله بالغ الدقة، والكمال.
وكما قال الله – تعالى – : ﴿ الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) ﴾ هود.
والله أعلم.