لماذا جاء لفظ: (وليضربن) ولم يأتِ لفظ: (وليغطين)؟!
دون تدبر القرءان، وإدراك أنَّه ليس مثل كلام البشر؛ قد يبدو للبعض من منظور الأكثر شهرة بين الناس؛ أنَّ (وليغطين) هي الأكثر منطقية من لفظ (وليضربن)!
ذلك لأن الناس اعتادوا على التعبير مستخدمين لفظ: (الغطاء) في كلامهم.
وربما يجهل الكثير معنى: (يضربن) وما بها من بلاغة.
لكن ليس كل ما اعتاد عليه الناس يكون الأكثر دقة؛ بل يبقى كلام الله، والبيان في القرءان هو الأعلى من كل قول ءاخر.
وللإجابة على السؤال السابق، علينا أن نتبين بإذن الله الفرق بين: (يضربن، يغطين).
مثلًا: إذا أردنا تغطية ماءً داخل إناء؛ لعزله فقط عن الأتربة المُحيطة به؛ فإنَّه بمجرد وضع الغطاء دون النظر لكونه شفافًا؛ أو غير شفاف؛ تمت تغطية الماء وعزله عن الأتربة.
لكن إذا أراد إنسان أن يُغطي فنجانًا من القهوة لعزله عن الأتربة، وأراد في ذات الوقت أن يعزله عن أعين الأطفال؛ لأن القهوة ربما لا تكون مناسبة لهم لصغر أعمارهم.
فإن التعبير: غطي الفنجان؛ لن يكون التعبير الأكثر دقة.
لماذا؟!
ربما كان الغطاء من الزجاج الشفاف، سيعزل القهوة عن الأتربة، ولكنه لن يعزلها عن أعين الأطفال!
لذلك فهو مُضطر أن يذكر تفاصيل الغطاء فيقول: غطي القهوة بغطاء يمنع دخول الأتربة إليها، ولا يكون الغطاء شفافًا ليمنع أعين الأطفال من أن تراها.
حين نستنبط معنى الغطاء من خلال تدبر القرءان؛ نجده معنى نسبي؛ لذلك فهو يحتاج إلى ألفاظ أخرى معه لتُبينه.
وكذلك نجد أنَّ مفهومنا للدور المادي الذي يؤديه الغطاء هو الآخر نسبي، الأمر الذي يحتاج معه إلى ذِكر تفاصيل كثيرة لنتبين منها دوره (وهذا لا يتوافر للفظ في حال تم ذكره بمفرده).
مما سبق يُمكننا الإجابة على السؤال: لماذا لم يأت لفظ (وليغطين) في الآية الكريمة؟
لأنَّ الغطاء قد يكون شفافًا؛ وقد يكون غير شفاف؛ أو ملتصق بالجسم فيصف؛ أو غير ملتصق فلا يصف؛ إنَّه غطاء وحسب؛ (فالغطاء في حد ذاته لا يعني الفصل بين العين، والجسم).
وبالانتقال إلى لفظ: (وليضربن) الذي جاء في الآية: ﴿ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ ﴾ سنتبين بإذن الله أنَّ لفظ: (يضربن) يُفيد الفصل الكامل بين شيئين، وهو اللفظ المناسب الدال على مراد الله – تعالى – في الآية.
يمكننا تبين ذلك في قول الله – عز وجل – : ﴿ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ﴾ من الآية (١٣) الحديد.
(فضرب) لأنَّه سور يفصل بشكل كامل يوم القيامة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.
﴿ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَٰرَهُمۡ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ (٥٠) ﴾ الأنفال.
الملائكة حين يتوفون الظالمين؛ فإنَّهم يفصلون بشكل كامل بين حياتهم الدنيا (أدبارهم)، وبين الآخرة التي يتوجهون إليها لحظة الموت.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ (٧٧) ﴾ طه.
لأنَّه سيفصل بين الماء فصلًا كاملًا؛ حتى يظهر طريقًا يبسًا لكي يمرون عليه.
إذًا قول الله – تعالى – : ﴿ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ ﴾ قول بليغ يدل على أنَّ كل لفظ في القرءان له معنى خاص به.
لفظ: (وليضربن) جاء في موضعه؛ ليبيِّن لنا أنَّ المراد هو الفصل الكامل بين أعين الناس من جانب، وبين ما لا يجوز إظهاره (جيوب جسم المرأة) من جانب ءاخر.
هذا المعنى الموجز، بالغ الدقة لا يُؤديه أي لفظ ءاخر ولو بدا أنه متطابق، أو متشابه مع لفظ: (وليضربن).
وعن التكامل التشريعي الذي نستنبطه من الآية الكريمة حين نتدبر القرءان: يتبين لنا أنَّ (وليضربن) بينت أنَّ خُمُرهن ليست مجرد غطاء؛ بل غطاء له مواصفات وهي: أن يكون هذا الغطاء غير شفاف، ولا يلتصق بالجسم؛ حتى لا يصف ما خلفه من جيوب جسم المرأة، وهذا من الدقة الكبيرة للفظ (وليضربن) التي ميزته عن معنى (وليغطين).
عدم تبين معنى لفظ: (وليضربن) في الآية (وهو ثابت في كل الآيات في القرءان) يُؤدي إلى عدم تبين مراد الله من الآية، وعدم ادراك التكامل التشريعي في كتابه الذي جعله اللهُ تبيانًا لكل شئ.
فبلفظ واحد (وليضربن) نفقه مراد الله تعالى من الآية دون اختلاف، وهذه الدقة في الألفاظ لا يقدر عليها الإنس والجن.
ما من لفظ في القرءان إلَّا وجاء في موضعه؛ فلا يغني عنه لفظ ءاخر ولو بدا كل لفظ متطابق مع الآخر، أو متشابه.
إن دقة الألفاظ في القرءان معناها أن لكل لفظ دلالته الخاصة به.
تلك الدلالة هي التي تُبين لنا مراد الله، ولو تم استبدال تلك الألفاظ بزعم التطابق، أو التشابه؛ فإن المراد (المعنى) سيتغير عما أراده الله – عز وجل -.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ من الآية (٨٩) النحل.
تبيان بما فيه من دقة الألفاظ، وبلاغة موضع كل لفظ.
والله أعلم.