ما هو سبب اختلاف بعض الألفاظ في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٥٥) ﴾ التوبة.
وقول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٨٥) ﴾ التوبة.
حيث نلاحظ ما يلي
﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ ﴾، ﴿ وَلَا تُعۡجِبۡكَ ﴾..﴿ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾، ﴿ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾..﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا ﴾، ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا﴾..﴿ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا ﴾، ﴿ فِي ٱلدُّنۡيَا ﴾..
سبب اختلاف بعض الألفاظ هو أنَّ كل ءاية تعبر عن حكم خاص بها يختلف عن حكم الآية الأخرى؛ ولكي نتبيَّن ذلك؛ فإنَّنا نحتاج إلى معرفة السياق الذي جاءت فيه كل ءاية.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ (٥٣) وَمَا مَنَعَهُمۡ أَن تُقۡبَلَ مِنۡهُمۡ نَفَقَٰتُهُمۡ إِلَّآ أَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِۦ وَلَا يَأۡتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمۡ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمۡ كَٰرِهُونَ (٥٤) فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٥٥) ﴾ التوبة.
هنا الآيات تتحدث عن المنافقين وهم أحياء؛ لأنَّها تتحدث عن إنفاقهم للأموال..
وفي قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ (٨٣) وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ
وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ (٨٤) وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٨٥) ﴾ التوبة.
تتحدث الآيات عن لحظة الموت بالنسبة للمُنافق.
لماذا بدأت: ﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾، بحرف: (الفاء) أما: ﴿ وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾ بدأت بحرف: (الواو)؟
﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾؛ حرف: (الفاء) يُعبر عن الترتيب الزمني، وسرعة تنفيذ الأمر من قبل النبي ﷺ حين علم بأمر المنافقين، وهم لا يزالون أحياء.
أما قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾ بدأت بحرف: (الواو)، وليس بحرف: (الفاء) لأنَّها تتحدث عن المنافقين حين يأتي أحدهم الموت (أي بعد فترة من الوقت) وليس كما كان الأمر في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾ والتي قصدتهم وهم أحياء يُرزقون.
حرف: (الواو) في الَّسان العربي لا يشير إلى فترة زمنية مُحددة عكس حرف: (الفاء).
ننتقل إلى (لا الناهية) في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾ وحرف: (الواو) في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾.
لماذا (لا الناهية) جاءت في ءاية، وحرف (الواو) جاء في الآية الأخرى؟
وجود (لا الناهية) بين: (أموالهم) و (أولادهم) جاء ليجعل لكل منهما حكمًا خاصًا به: حكم خاص بالأموال من ناحية، وحكم خاص بالأولاد من ناحية أخرى؛ لأنَّه قد يكون عند المنافق (في حياته) أموالًا، وليس لديه أولاد، أو العكس، ومنهم من لديه الأموال، والأولاد، وقد يتبدل الحال في المستقبل؛ فهم لا يزالون أحياءً؛ لأنَّه كما قلنا: ﴿ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾، جاءت لتعبر عن حياة المنافقين التي يُحتمل أن يزيد فيها أموال المنافق وأولاده، أو العكس.
أما الإجابة على التساؤل: لماذا جاءت (الواو) في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾ بدلًا من (لا الناهية) مثل الآية الأخرى؟
ذلك لأنَّ حرف: (الواو) أشار إلى الوقت الذي يحين فيه موت المنافق (أجله).
عندها يكون المنافق على علم بما لديه من أموال، وأولاد رُزق بهم في حياته (أي قبل لحظة الموت؛ لأنَّ الإنسان يأتيه رزقه وهو حي).
فحين يأتي المنافقين الموتُ، يتذكر ما لديه من مال، ومن أولاد رُزق، وعلم بهم في حياته (الإنسان لا يُرزق شيئًا من أمور الحياة حين يأتيه الموت، أو بعده).
ومن أدلة ذلك دقة لفظ: (أولادهم) التي تعني أنَّهم بالفعل هم من ولدوا في حياته (أي علم بهم وهو حي) وليس من يُحتمل مولدهم في لحظات موته، أو حتى بعد موته.
إذًا قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾ يُراد به لحظة الموت.
أمَّا قول الله سبحانه ـ وتعالى ـ : ﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾؛ فقد جاء ليعبر عن حياة المنافقين (أي وهم أحياء قبل أن يأتي أحدهم الموت) كما تبيَّن لنا من قبل.
ننتقل إلى ألفاظ أخرى في الآيتين
في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا ﴾ نجد أنَّ: ﴿ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا ﴾ جاءت بحرف: (الَّام) لكن في قوله ـ تعالى ـ : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا ﴾ جاءت: ﴿ أَن يُعَذِّبَهُم ﴾ بلفظ: (أن) وليس بحرف: (الَّام).
فلماذا هذا الاختلاف؟
(ليعذبهم) الَّام تدل على مُصاحبة العذاب للإنفاق في الحياة (يُنفقه وهو كاره).
هنا نجد أنَّ المنافقين أحياء يستمتعون بحياتهم، ويختارون أفعالهم؛ أي أنَّ العذاب يحدث في ذات وقت إنفاقهم المال (وهم كارهون)،
وذلك من دقة الوصف في القرءان الكريم الذي ينقل لنا مشاعر المنافقين.
إنَّهم يتحسرون على تلك الأموال التي ينفقونها وهم كارهون؛ ليخدعوا النبي ﷺ، والَّذين ءامنوا معه.
أما قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ أَن يُعَذِّبَهُم ﴾ وليس ﴿ لِيُعَذِّبَهُم ﴾ يدل على عذاب المنافقين حين يأتي أحدهم الموت (في المستقبل)
أي في لحظات الموت يتعذب المنافق على عدم إيمانه، وأنَّه حين أنفق المال وهو في الحياة الدنيا كان يُنفقه رياءً؛ لن ينفعه عند ربه، وكذلك لن تنفعه أولاده.
لماذا مرة جاءت: ﴿ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا ﴾ ومرة جاءت: ﴿ فِي ٱلدُّنۡيَا ﴾ بدون ذِكر لفظ الحياة معها؟
لأنَّ الحياة الدنيا تعني الزمن الذي يحياه المنافق وهو يستمتع، ويرغب، ويُريد، ويجمع المال، ويتباهى بالأولاد.
أمَّا ﴿ فِي ٱلدُّنۡيَا ﴾ بدون الحياة؛ فهي عبرت عن الوقت الذي يأتي فيه النفس أجلها (حين الموت) الذي فيه لا تكون حياة.
نعم، هو لا يزال في الدنيا، ولكنَّه ليس في الحياة ذاتها؛ بل في الجزء الخاص بالدنيا حين الموت.
لأن الدنيا تشمل الأوقات التي تتكون من قبل مولد الإنسان (الدنيا) وبعد مولده، وقبل موته (الحياة الدنيا) وحين الموت (الدنيا) وبعد الموت، وقبل البعث (الدنيا).
لذلك فإنَّ قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فِي ٱلدُّنۡيَا ﴾ أشار إلى وقت الأجل (حين الموت) الذي يُعذب فيه المنافق بحسرته على أمواله، وأولاده، وما تبين له من الحق، ولم يشر إلى الحياة الدنيا.
ومثل ما قلت: تنقسم الدنيا إلى أربعة أقسام: الدنيا قبل المولد، والحياة الدنيا (وهي التي يحياها الإنسان)، والدنيا حين الموت، والدنيا بعد الموت إلى ما قبل البعث).
إذًا قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٥٥) ﴾ أشار إلى المنافقين وهم أحياء؛ حيث يتحسرون على أموالهم التي يُنفقونها في سبيل الإسلام (وهم كارهون) ويتحسرون كذلك على أولادهم وهم يُساعدون النبي ﷺ، والمؤمنين (كارهون) ليخدعوا النبي ﷺ والمؤمنين.
وهذا ثمن يدفعه المنافقون في حياتهم بسبب رغباتهم في خداع المؤمنين.
وقول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٨٥) ﴾
فقد أشار إلى العذاب الذي يشعر به المنافق حين يأتيه الموت؛ حيث يتحسر على نتيجة نفاقه، وأنَّه لم يكن من المؤمنين؛ حيث أنفق ماله كارهًا ونفاقًا، وليس في سبيل الله حقًا.
والله أعلم.