حين وصف الله تعالى نفسه بأنَّ له كلام، وأنَّه كلم موسى تكليمًا؛ هل هذا يعني أنَّ الله يُشبه المخلوقات؛ لأنَّها تتكلم؟!
نحن نجتهد لنتبين الحق من كتاب الله.
ولا شك أنَّ تدبر القرءان، واستنباط المراد من كل ءاية فيه؛ لهو أفضل ما نتبين منه الحق؛ فينقضي به الخلاف حول بعض المفاهيم التي قد لا نجد لها القول الفصل من خارج كتاب الله.
كيف يمكن أن نتبين صفة كلام الله لسيدنا موسى؟
في البداية يجب التفريق بين: ما هو بصورة، وما هو بصفة.
هنا سأُشبه الصورة بالإحساس؛ لأنَّها مُجسدة (نراها بالبصر).
وسأُشبه الصفة بالشعور (بالتعبير الدارج الصفة هي: شئ معنوي لا نراه بالبصر).
الصورة دائمًا شئ مجسد يُدركه البصر؛ وهي لا تنبغي في حق الله تعالى.
ماذا يعني هذا؟
أنَّه ليس لله صورة لهذا لا تُدركه الأبصار؛ لأن الأبصار تدرك ما له صورة فقط؛ وهذا يستحيل في حق الخالق.
أمَّا الصفة فهي ليست شيئًا مُجسدًا؛ لهذا فنحن لا نراها بالبصر؛ ولكن نرى ءاثارها.
هذا الاستنباط ليس بكلامي؛ أي لم ينشأ في نفسي، ولكن هذا الاستنباط؛ هو قراءة نتبينها من قول الله – تعالى – : ﴿ فَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَيۡفَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (٥٠) ﴾ الروم.
فمن روعة البيان في القرءان؛ اللهُ – عز وجل – لم يقل: (فانظر إلى رحمة الله)؛ وإلَّا صار للرحمة صورة؛ أي صارت مُجسدة، نراها بالبصر (نرى ذاتها). ولكن قال – سبحانه وتعالى – :
﴿ فَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ ﴾ مما يعني أنَّ ما نراه هو: ءاثار الصفة؛ أي ءاثار صفة رحمة الله، وليست الصفة ذاتها؛ لأنَّ الرؤية عادت على الأثر، وليس على الصفة؛ وهذا من بلاغة الوصف في القرءان، وكيف يأتي كل لفظ في موضعه.
ما هي ءاثار رحمة اللهُ؟
من ءاثار رحمة الله بمخلوقاته: إحياء الأرض بعد موتها، نزول المطر شفاء المريض..
وماذا عن الكلام؛ هل هو صفة مثل باقي الصفات؛ أم صورة (شئ مُجسد نراه بالبصر)؟
لكي نتبين إجابة هذا السؤال؛ لابد من الرجوع إلى قول الله – تعالى – : ﴿ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا (١٦٤) ﴾ النساء.
لأنَّ الله وصف نفسه بأنَّه: كلم موسى؛ إذًا الكلام صفة من صفات الخالق؛ وبالتالي: لا يمكن أن يكون الكلام صورة؛ أو شيئًا مجسدًا نراه بالبصر، أو بالحواس؛ بل لا يمكن رؤيته أبدًا.
ولأنَّه (أي الكلام) حين يُنسب لله تعالى؛ فإنَّه حتمًا يكون صفة من صفات الله؛ وبالتالي: ليس مخلوقًا؛ لأنه ليس ككلام البشر، أو المخلوقات.
ما الذي نراه بالحواس أليس الكلام الخطوط على الصحف أو الذي نسمعه؟!
يجب ألَّا نخلط بين الكلام، والقول؛ فالذي ندركه بالحواس هو القول الذي منه: صور الحروف المخطوطة على الصحف، والصوت، والإشارة.
أما الكلام فهو ما يحوي الدلالات (المعاني) وما ينتج عنه من الذكر.
وهنا أعود لأرد على من ينفون صفة الكلام عن الله، وأقول لهم: هل حين وصف اللهُ – تعالى – نفسه بأنَّه كلم موسى تكليمًا؛ يمكن أن يقول أحد: أنَّ هذا تشبيه للخالق بالبشر؟!
هذا هو محور الموضوع..
إنَّ وجود صفة الكلام لله – عز وجل – ووجودها للمخلوقات؛ لا يعني أنَّ المخلوقات تُشبه الخالق في صفة الكلام.
والعجيب أنَّ من الناس الذين لا يدركون الفرق بين الكلام كصفة، والقول المخلوق؛ ينفون الكلام عن الخالق ظنًا منهم أنَّهم يُنزهون الله عن التشبيه بالمخلوقات؛ لأن المخلوقات تتكلم فيقولون إذًا الله لا يتكلم؟!
وهم بهذا يردون ءايات في القرءان أثبت الله – تعالى – فيها أنه تكلم.
ونطرح عليهم هذا السؤال: ألم يكلم اللهُ موسى تكليمًا، وأمر الرسول – عليه الصلاة والسلام – إن أحد من المشركين استجاره أن يجره حتى يسمع كلام الله؟!
هذا يثبت أنَّ لله كلام، وهو من صفاته، وأن كلام الله ليس ككلام البشر.
ولمن ينكر هذا نقول لهم: أليس لله صفات أثبتها لنفسه مثل صفة الرحمة، ووأثبت للبشر صفات كصفة الرحمة؟
لكن ما الفرق بين الصفتين؟
صفة رحمة الله ليست مخلوقة، وهي لا تشبه صفة رحمة الناس المخلوقة
اللهُ رحيم، والمخلوقات رحيمة (ولا شك في هذا).
فهل هذا يجعلنا نرد صفة الرحمة عن المخلوقات؛ لأنَّها نسبت لله؟!
ولأنَّ الله – تعالى – أثبتها لنفسه؛ فإنَّ هذا لا يعني أنَّ المخلوقات تُشبه الخالق في رحمته.
(سأقول لماذا فيما بعد).
نحن ننفي الصورة عن الله؛ لأنَّ الله – تعالى – لم يثبتها لنفسه؛ بل نفاها بقوله: ﴿ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (١٠٣) ﴾ الأنعام؛ وكان نفيًا تامًا في ءاية محكمة.
فالله – عز وجل – لا يتجسد في الدنيا، ولا في الآخرة (قضي الأمر من كتاب الله).
ولكن لله صفات أثبتها لنفسه، وللمخلوقات صفات أثبتها الله – تعالى – لهم؛ وهذا لا يعني أنَّ صفات المخلوقات هي ذاتها صفات الخالق، أو تُشبه صفات الخالق.
لماذا الكلام صفة؟
لأنَّنا لا نرى الكلام ذاته شأنه شأن الصفات، ولكن نرى القول (كالصوت، والإشارة) الَّذي ينقله لنا، ونرى ما يُحدثه هذا الكلام من تغيير في النفس؛ فذلك من أثر الكلام، ومن أثره المعاني التي ندركها من الكلام.
مثلًا: إنسان ينصحه والداه على فعل الخير؛ فإن أثَّرَ كلامهما فيه وفعل الخير؛ نقول: إنَّ هذا الخير من ءاثار كلام والديه له (لأنَّ الكلام شأنه شأن الصفات نرى ءاثاره، ولا نرى ذاته).
ومن ينفون أنَّ الله تكلم؛ حتى لا يقعون في التشبيه بين الله، وخلقه؛ أقول لهم: اللهُ – سبحانه وتعالى – وصف نفسه بأنَّه: (رحيم) فهل هذا يعني ألَّا نصف المخلوقات بالرحمة؛ لكي لا نقع في التشبيه؟!
نأتي بالبيان من كتاب الله؛ قال اللهُ – تعالى – : ﴿ قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (٩٢) ﴾ يوسف؛ فهناك راحمين كما ذكرت الآية؛ فهل هذا يعني أنَّ رحمة المخلوقات تُشبه رحمة الخالق؟!
بالتأكيد لا؛ ومن الأسباب التي ندركها؛ أنَّ رحمة المخلوقات مخلوقة؛ بينما رحمة الله ليست مخلوقة.
وبالتالي: لا يمكن المقارنة أصلًا بين رحمة الخالق، ورحمة المخلوقات.
ولأنَّ الكلام مثل باقي الصفات، وينطبق عليه ما ينطبق عليها؛ فإنَّ القول: أنَّ الله كلم موسى تكليمًا؛ لا يعني هذا أنَّ كلام الله يُشبه كلام المخلوقات؛ لأنَّ كلام المخلوقات مخلوق مثلها، يحتاج لزمن لكي ينشأ في النفس؛ بينما كلام الخالق ليس مخلوقًا؛ لأنَّه لا يحتاج لزمن لكي ينشأ، أو يكون.
من وصف نفسه بأنَّه: (كلم موسى تكليمًا) هو اللهُ – تعالى – كما بيَّنا في قوله – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا (١٦٤) ﴾ النساء.
لهذا لا يمكن نفي الكلام عن الله، وهو القائل: ﴿ وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ (٦) ﴾ التوبة.
إنَّ الله – تعالى – هو من وصف أنَّ القرءان: (كلامه) لأنَّ كلام المخلوقات جاء في القرءان بوصف من الله – عز وجل -.
الكلام بصفة عامة ليس شيئًا مجسدًا؛ بل هو صفة، ليس له صورة تُجسده (مثله مثل كل الصفات).
كلام الله ليس مخلوقٓا؛ ولكن المخلوق هو القول الذي ينقل الكلام إلى داخل الفؤاد.
ومن صور القول: الصوت، الإشارة، الوحي.
والله أعلم