قال الله – تعالى – : ﴿ وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٣٢) إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٍ (٣٣) أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ (٣٤) ﴾ الشورى.
أشار المفسرون إلى أنَّ الجوار المنشآت هي الفلك (السفن)..
استمر هذا التفسير مئات السنين، حتى صنع الإنسانُ سفنًا تجري بقوة دفع المحرك الآلي، وليست بقوة دفع الريح.
هنا ظهرت إشكالية أثارها الملحدون؛ حين اتخذوا من التفاسير القديمة أساسًا لنقدهم للآيات الكريمة؛ فقالوا: نحن نعيش في عصر تجري فيه السفن بالمحرك الآلي، وليست بالريح فقط. واعتبرا أنَّ هذا دليل على أنَّ القرءان كلام بشر لا يعلم كاتبه ما سيحدث في المستقبل من تطور في صناعة السفن!
وللرد عليهم؛ اجتهد عدد من العلماء في الوقت الحالي للتوفيق بين المراد من الآية (التي ذَكرت الريح كقوة دفع)، وبين جريان السفن التي يتم دفعها بالمحرك الآلي في العصر الحديث؛ ليتوافق ذلك مع التفاسير القديمة التي قالت: إنها السفن..
فقالوا: (الريح لا بد أن تجري حتى يصل الأكسجين إلى محرك السفينة لتتم عملية الاحتراق داخل المحرك؛ عندها يدور محرك السفينة؛ فيدفعها لتجري في البحر.. وإن سكنت الريح؛ سيتوقف المحرك عن الدوران؛ وبالتالي: تتوقف السفينة عن الجريان).
وهنا لي وقفة
التفسير القديم قابل للمراجعة حين يتعلق بالآيات الكونية، وليس من اليقين أن يكون صائب؛ فهو من اجتهاد البشر، وليس قرءانًا من عند الله.
ذَكرت من قبل معنى كل من: (صنع، أنشأ) واستنبطنا دلالة كل لفظ منهما.
وسيكون لذلك دورًا في تبيُّن مراد الله – تعالى – من الآيات، وسنرد في ذات الوقت قول الملحدين؛ ليعلموا أنَّ القرءان هو كلام الله المُعجز الذي ليس للبشر أن يأتوا بمثله.
ما المراد بالمنشآت في البحر؟
قال الله – تعالى – : ﴿ وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٢٤) ﴾ الرحمن.
وقال – سبحانه و ـ تعالى – : ﴿ وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٣٢) إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٍ (٣٣) أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ (٣٤) ﴾ الشورى.
حين نتدبر القرءان، ونعود لموضوع التفريق بين لفظي: (صنع، وأنشأ) يتبين لنا من بلاغة البيان في القرءان أنَّ المنشآت في البحر؛ ليست هي الفلك (السفن).
لماذا المراد من الآيات لا يعني الفلك (السفن)؟
الله – تعالى – نسب الآيات إلى نفسه، وليس إلى الناس؛ قال: ﴿ وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ﴾ وهذا يبين لنا أنَّ هذه الآيات هي أشياء طبيعية خلقها الله، وليس للإنسان أي دور في وجودها.
خلقها الله؛ لتنفع الناس، وليتفكروا فيها؛ فيؤمن بعضهم بالله، ومنهم من يزداد إيمانًا؛ وليشكروا الله على نعمه عليهم؛ ولنتبين
أنَّ القرءان هو كلام الله الذي يجب علينا أن نتدبره في كل وقت؛ لنستنبط منه الحق، والمُعجزات البلاغية؛ ونرد على من قالوا: إنَّ القرءان كلام بشر.
لماذا المنشآت ليست السفن؟
المحرك الآلي يُعطي السفينة قوة دفع تجعلها تجري؛ وحينها (دائمًا) ستجد الأكسجين حتى إن سكنت الريح.
وبذلك فإن قول الله – تعالى – : ﴿ إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦٓۚ ﴾ لا يعني السفن أبدًا.
سخونة الجو في السفينة وحولها بسبب الجو الساخن الذي يخرج من محرك السفينة، أو بسبب ضوء الشمس الذي يرفع درجة حرارة الجو داخل وحول السفينة؛ تجعله في حالة حركة دائمة؛ حيث يصعد الجو الذي ارتفعت درجة حرارته إلى الأعلى، ويهبط الجو الذي درجة حرارته أقل.
هذا يتسبب في حدوث تبادل للجو الذي خرج من محرك السفينة بعد أن ارتفعت حرارته، ونفد منه الأكسجين الذي احترق داخل محرك السفينة، بالجو الأقل حرارة والذي يحمل معه الأكسجين الجديد لمحرك السفينة.
وكذلك جريان الجو في مسار أفقي نحو السفينة..ذلك يتم دائمًا بسبب اختلاف حرارة الجو حول السفينة؛ حتى وإن سكنت الريح.
كل ذلك من شأنه أن يذهب دائمًا بالأكسجين إلى محرك السفينة فيظل يعمل، ولا يتوقف.
وهذا بدوره يجعل السفينة التي تجري بقوة دفع المحرك الآلي لا تتوقف عن الجريان (وإن سكنت الريح).
إذًا سكون الريح؛ سيكون سببًا في توقف السفن الشراعية عن الجريان، ولن يكون سببًا في توقف السفن التي يتم دفعها بقوة المحرك الآلي؛ لأنَّ المحرك الآلي يدفع السفينة؛ وبالتالي: يصل بها دائمًا إلى الأماكن التي بها أكسجين فيظل المحرك يعمل، ولا تتوقف السفينة عن الجريان (بسبب سكون الريح).
في حين بينت الآية؛ أنَّ ركودها في البحر سيكون في ذات اللحظة التي تسكن فيها الريح (وليس بعدها بفترة) قال الله – سبحانه ـ تعالى – : ﴿ إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦٓۚ ﴾ (فيظللن) تُبيِّن لنا أنَّ التوقف سيكون مباشرة بمجرد أن تسكن الريح (وهو الأمر الذي نتبينه من حرف: (الفاء) الذي يدل (معناه) على ما يلي:
بمجرد انتهاء ما قبل حرف (الفاء) زمنيًا؛ يبدأ ما بعده مباشرة في الحدوث (دون فاصل زمني بينهما).
من ذلك أتبين أنَّ الآيات لم تشر إلى الفلك، والسفن، ولكن أشارت إلى ركود جبال الجليد..
نعم، توقف الريح في البحر يجعل جبال الجليد تتوقف عن الجريان في البحر، وتظل راكدة لعدم وجود قوة تدفعها.
ستتوقف عن الجريان في الماء بمجرد سكون الريح (الركود لا يكون إلَّا في سائل، مثل: الماء).
ذلك الذي يتوافق مع بلاغة الآيات، ودقة الألفاظ فيها، والتي منها لفظ المنشآت الذي لا يعني السفن؛ لأن السفن، والفلك تُصنع، وليس تُنشأ.
قول الله – تعالى – : ﴿ إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦٓۚ ﴾، وقوله – سبحانه و ـ تعالى – : ﴿ أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ ﴾ يُبين حكمين مختلفين..
فمن دقة لفظ: (أو) أنه يعني التخيير، وليس الجمع.
لذلك لفظ: ﴿ يُوبِقۡهُنَّ ﴾ ليس معناه الغرق، أو الهلاك، ولكن وفقًا لدلالتها؛ هي جبال الجليد.. وسيكون ما يلي هو الأقرب للصواب:
الآية تعني بلفظ: ﴿ يُوبِقۡهُنَّ ﴾ أنَّ جبال الجليد ستبقى في صورتها المتجمدة؛ وبالتالي: لن تعود إلى حالتها الأولى (السائلة) التي كانت عليها من قبل، وهي: (الماء).
قول الله – سبحانه و ـ تعالى – : ﴿ أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ ﴾ نتبين منه أنَّ حرف: (الواو) في: ﴿ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ ﴾ جاء
للسرد، وليس للتخيير..فقد يعود لفظ: ﴿ يَعفُ ﴾ في الآية إلى جبال الجليد؛ بمعنى: أنها لن تبقى في شكلها، وصورتها المتجمدة؛ وذلك بعودتها لما كانت عليه من قبل (الماء).
ولأنَّ الله رحيم بالناس (مع ما كسبت أيديهم) فإنَّه يُعيد بعد فترة زمنية، مجموعة من جبال الجليد التي تجري في البحر لحالتها الأولى (الماء) رحمة بهم.
لماذا في ذلك رحمة بالناس؟
لأنَّ عدم عودة الجزء الأكبر من جبال الجليد (الجارية في البحر كالأعلام) إلى الحالة السائلة؛ قد يترتب عليه مجموعة من الأضرار التالية
ستكثر نشأة جبال الجليد مع الوقت، وستزيد عن المعدل المناسب للحياة؛ مما يجعلها تحجب الكثير من الضوء الذي ينفذ إلى الكائنات البحرية؛ الأمر الذي سيُحدث أضرارًا كبيرة على دورة الأحياء البحرية؛ وبالتالي: على الإنسان.
زيادة مساحة جبال الجليد بصورة كبيرة؛ ستُؤدي إلى إعاقة الملاحة في البحر؛ كتوقف السفن، وتعثر عمليات الصيد.
ستنخفض درجات الحرارة بسبب زيادة مساحة الجليد؛ وهذا سيُؤدي بدوره إلى سرعة نشأة المزيد من الجليد في البحر بشكل أسرع من المعدل الطبيعي؛ وبالتالي: زيادة اختلال درجة الحرارة في كوكب الأرض، وهو ما يُؤدي كذلك إلى اختلال الحياة على الأرض بأكملها..
لفظ: (يعفو) في القرءان لا يُراد به دائمًا العفو عن عقوبة، ولكن يعني كذلك في بعض الآيات ترك الشئ، أو التجاوز عنه.
وهنا تعني ترك الكثير من جبال الجليد لتعود إلى حالتها الأولى (السائلة) التي أُنشئت منها وهي: (الماء).
من أمثلة لفظ: (يعفو) في القرءان
قال الله – تعالى – : ﴿ وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ ﴾ من الآية (٢٣٧) البقرة.
الفريضة هنا ليست عقوبة، ولكن هي حق، ويُمكن لمن بيده عقدة النكاح أن يعفو؛ أي يتجاوز عن ذلك الحق فلا يأخذه.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ (١٠١) ﴾ المائدة.
هل يعقل أنَّ الله عفا عن عقوبة الأشياء التي لم تُبدَ لنا؟!
كلا؛ إنما المراد بقوله: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ ﴾ أنَّه – سبحانه و ـ تعالى – لم يُبدِها لنا؛ فلم يكلفنا بها (لأنَّها لم تأتِنا في الكتاب.
قال الله – تعالى – : ﴿ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ (١٥) ﴾ المائدة؛ قول الله – تعالى – : ﴿ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ ﴾ عاد على ما في الكتاب الذي أنزل من قبل على موسى،
وعيسى – عليهما السلام – لأنَّ العفو في الآية عاد على ما يُكلف به الناس (وليس على الناس أنفسهم).
كثير من الأحكام، والأوامر، والنواهي التي نزلت لأهل الكتاب من قبل، وكانوا يُخفونها، عفا الله عنها في القرءان؛ أي لم ينزلها في القرءان.
لذلك نحن نفقه من قول الله – عز وجل – : ﴿ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ ﴾ أنَّ أهل الكتاب كانوا يُكلفون بأمور، وكانوا يُخفونها عن الناس؛ لئلا يعملوا بها؛ فخالفوا بذلك أوامر الله !
ولكن بعد نزول القرءان عفا الله عنها؛ (أي لن يُكلفوا بها بعد نزول القرءان ).
إذَّا يعفو لا تعني دائمًا العفو من العقوبة فقط، ولكن التجاوز عن شئ، أو تركه هو كذلك من العفو.
قال الله – تعالى – : ﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ (٣٠) ﴾ الشورى؛ الله يعفو عن كثير؛ أي كثير من الأشياء التي كسبتها أيدي الناس؛ فلا تصيبهم عواقبها رحمة من الله (وهنا العفو في الحياة الدنيا عن عقواب جزاء عملهم).
والآن أذكر ما يُبيِّن المراد الحق الذي أشار إلى جبال الجليد في القرءان الكريم.
والتي ظنوا قديمًا أنَّها الفلك (السفن) لعدم ظهور السفن التي تجري بمحرك آلي في تلك الفترة.
وربما كان ذلك الخلط (غير المتعمد) سببه أنه لم يتم التفريق الدقيق بين لفظي: (صنع، أنشأ)
قال الله – تعالى – : ﴿ وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٢٤) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) ﴾ الرحمن.
بينت من قبل: أنَّ السفن تُصنع، ولا تُنشأ؛ فلا يُمكن القول (حسب دلالة اللفظ، وبلاغة القرءان): إنشاء السفن؛ لأنَّها من أشياء (خامات) يصنعها (يشكلها) الإنسان.. علمًا بأن الإنسان يصنع الشئ، ولا يُنشئه.
وذلك نتبينه من قول الله – سبحانه و ـ تعالى -: ﴿ وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ (٣٧) وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ (٣٨) ﴾ هود؛ لقد تكرر اللفظ مرة في
صورة الأمر ﴿ وَٱصۡنَعِ ﴾
، وأخرى في صورة الحاضر ﴿ وَيَصۡنَعُ ﴾ ولم يأتِ: (وانشئ الفلك، ويَنشئ الفلك).
ذلك من بلاغة القرءان، ودقة ألفاظه؛ لأن لفظ: (أنشأ) في القرءان؛ أشار إلى الأشياء التي تخرج من أصل واحد، أو مكونات تُعطى أشكالًا وصورًا مُختلفة عما كانت عليه تلك المكونات قبل إنشاء الشئ الجديد.
وتتم تلك النشأة، وتشكل الأشياء بقدرة الله – تعالى – دون تدخل الإنسان في تلك النشأة.
ماذا نستنبط من ذلك؟
أنَّ السفن ليست كالإنسان أو الشجرة من أصل واحد، أو أُنشئت من مكونات مختلفة؛ ثم يُخلق منها أشياء جديد تختلف عن المكونات ذاتها.
من أمثلة نشأة الأشياء
ورقة الشجر، والثمرة..ومع أنَّ كليهما مُختلفًا عن الآخر؛ إلَّا أنَّهما أُنشئا من أصل واحد؛ كذلك الناس أُنشئوا من نفس واحدة (أي أصلهم واحد).
وقد أشار القرءان إلى الجنين: تتم نشأته من نطفة، تلك النطفة لم تكن: (عظامًا، ولحمًا، ولا أعضاءً كالقلب، والرئة، والأذن، والعين).
تتشكل تلك الأعضاء بقدرة الله في رحم الأم (النطفة لم تكن من قبل جنين مُكتمل، أو لها شكل الطفل من الأصل).
إذًا لفظ: (أنشأ) يأتي ليُشير إلى شئ أصله واحد، ينشأ بقدرة الله – تعالى – وليس بقدرة البشر.
وعودة إلى قول الله – تعالى – : ﴿ وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٢٤) ﴾ يتبين لنا (حسب دقة الألفاظ في القرءان الكريم، وتفصيل الآيات) أنه لا يُمكن لفظ: ﴿ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ ﴾ في الآية يكون المراد به السفن (الفلك).
لفظ: ﴿ كالأعلام ﴾ مفرده: (علم) وهي الأشياء المتميزة التي يراها الإنسان في البحر بسبب ضخامتها، وتميزها في البحر.
فقد تصل مساحة جبل الجليد إلى عدة أضعاف مساحة مدينة كبيرة، وبعضها ينفصل عن القطبين: الشمالي، والجنوبي؛ فتدفع الريح تلك الأحجام الهائلة من الجليد لتجري في البحر كالأعلام.
ربما المنشآت تكون هي الأمواج؟
مع أنَّ الأمواج تجري بقوة دفع الريح، لكن إن سكنت الريح؛ فإنَّ الأمواج ستختفي، ولن تظل راكدة على ظهر البحر؛ لذلك لا يُمكن أن يكون المراد من الآيات؛ الأمواج.
جاءت الآية: ﴿ وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٢٤) ﴾ في سورة الرحمن، في سياق الآيات التي تتحدث عن بعض مما خلقه اللهُ في ملكوت السموات والأرض؛ كقول الله – تعالى – : ﴿ مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ (١٩) بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٞ لَّا يَبۡغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ (٢٢) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣) وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٢٤) فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) ﴾ الرحمن.
فكما نرى؛ الآية ليست لها أي علاقة بما صنع الإنسان، ولكن جاءت ضمن الآيات التي تتحدث عن بعض مخلوقات الله في ملكوت السموات والأرض التي تنفع الناس، وأمرهم أن يتفكروا في خلقها لعلهم يؤمنون ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) ﴾ الشورى؛ كما يتبين لنا: الله – عز وجل – ينسب المنشآت في البحر لآياته ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ التي هي جبال الجليد.
فعلى الناس أن يتفكروا في نشأتها، ونوافعها.
مما سبق فإنَّ قول الله – سبحانه و ـ تعالى – : ﴿ وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٢٤) ﴾ لا يُمكن أن يكون المراد به السفن (الفلك) لأنَّ الله يُخبرنا أنَّها أُنشئت في البحر، وليست خارجه.
إنَّها جبال الجليد التي تنشأ بقدرة الله في البحر (ذاته)؛ ﴿ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ ﴾ لأنَّ أصلها ماء البحر، وهي من ءايات الله للناس؛ ليتفكروا فيها: كيف أنشأ الله – تعالى – من الماء (السائل) جبال من الجليد (المُتجمد)
والله أعلم.