روى الترمذي، عن ابن عباس، أنَّ النبي ﷺ قال: لما أغرق اللهُ فرعون قال: ءامنت أنه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل: يا محمد ﷺ، فلو رأيتني وأنا ءاخذ من حال البحر فأدسه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الألباني: صحيح لغيره.
ورواه أحمد وابن حبان بلفظ: إنَّ جبريل كان يدس في فم فرعون الطين، مخافة أن يقول: لا إله إلَّا الله.
ما نتبينه منها: هو أن ذلك حدث من جبريل – عليه السلام – لحظة أن أدرك فرعونَ الغرقُ! وهذا محال من خلال تدبر القرءان:
فالرواية تقول: (لما أغرق اللهُ فرعون قال: ءامنت أنه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل؛ فقال جبريل: يا محمد ﷺ، فلو رأيتني وأنا ءاخذ من حال البحر فأدسه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة).
ما هو الدليل، أو الأدلة على أنَّ الرواية ليست صحيحة؟
من الأدلة على أنَّ تلك الرواية لم تحدث، وأنَّها تُخالف القرءان الكريم:
الله – تعالى – لا يظلم أحدًا،
فكيف يزعم البعض أنَّ الله ترك سيدنا جبريل يحول بين فرعون، والإيمان بالله، وأنه لولا ما فعل سيدنا جبريل لآمن فرعون؛ بل وقبل اللهُ توبته، ورحمه؟!
أنها خالفت ثوابت الدين الإسلامي وهي: أنَّ الله لا يقبل توبة الإنسان حين تأتيه ملائكة الموت، والقول بغير ذلك حقًا يُخالف القرءان.
كذلك خالفت الرواية مفهوم الإيمان وهو: أنَّ الإيمان ليس بالقول – لكي يقوم سيدنا جبريل بمنع فرعون من قول الشهادتين؟!
إنما الإيمان مشاعر في القلب يعلمها الله وحده (ليست قولًا).
قال الله – تعالى – : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ من الآية (٤١) المائدة.
الإيمان ليس بالقول ليعلمه سيدنا جبريل، ولكنه في القلوب يعلمه الله وحده.
وقد يُعلم اللهُ به ملائكته ﴿ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢) ﴾ العنكبوت.
قال سيدنا إبراهيم للملائكة الذين جاءوا لكي يُنفذوا أمر الله – تعالى – بعقاب قوم لوط ﴿ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ﴾ لأنه من المؤمنين فقالت له الملائكة ﴿ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ لقد أنبأهم الله بالمؤمنين.
وكما جاء في قول الله – تعالى – : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾.
إنَّ الإيمان ليس بالقول، ولكن مشاعر تطمئن بها القلوب
نعم، الله لا يحكم على الإيمان بالقول، ولكن بما اطمأنت به القلوب؛ فلو اطمأن قلب فرعون (حقًا) بالإيمان بالله؛ فإنَّ الله لن يحول بين فرعون، وبين الإيمان (الحق) لأنَّ الله – تعالى – لا يظلم أحدًا.
هو رب الجميع، رب رحيم، قال بشأن فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (٤٤) ﴾ طه.
لو كان فرعون يستحق الرحمة لأنه كان سيُؤمن حقًا؛ لرحمه الله – تعالى – الذي يعلم ما في قلب فرعون.
كذلك من الخطأ الذي يدل على أنَّ
ما أشارت إليه الرواية لم يحدث حقًا؛ أنَّها جعلت النطق بالشهادة هو الأساس للحكم على إيمان العبد، ولكن الله يعلم ما في قلب فرعون، ولا يحتاج إلى أن ينطق به؛ حتى يعلم أنه ءامن حقًا.
قال الله – تعالى – : ﴿ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ (١٠٦) ﴾ النحل.
كما نلاحظ الآية جعلت الإيمان في القلب، والقلب هو من يطمئن بالإيمان، وليس للنطق باللسان علاقة به؛ ولو ظن البعض غير ذلك لصار المنافق مؤمنًا؟!
ولكن الرواية نسبت الإيمان لفرعون من خلال النطق بالشهادة (يا محمد ﷺ، فلو رأيتني وأنا ءاخذ من حال البحر فأدسه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة) وكأن الإيمان يكون بالأفواه، وليس اطمئنان القلب به؟!
متى كان يمكن أن يُقبل إيمان فرعون لو ءامن حقًا؟
لو ءامن قبل أن تأتيه ملائكة الموت، سيكون ءامن حقًا، ولكن ذلك (ومن خلال ما نتبينه من ءايات القرءان) لم يحدث؛ لأنَّ الله أنبأنا: أنَّ فرعون من أهل النار، وأنه ءامن لما رأى العذاب العظيم، ورأى ملائكة الموت، وعلم أنَّ الله حق.
أمَّا لو كان يريد أن ينطق بالشهادة لحظة أن رءا ملائكة الموت؛ فإنَّ إيمانه (من خلال ما تبين لنا من القرءان) لا يُقبل في تلك الحالة؛ لأنَّه ءامن بالله حين رءا الملائكة (عين اليقين) وعلم أنَّ وعد الله حق؛ حينها يكون إيمان فرعون إيمان خوف، وليس إيمانًا اطمأن به قلبه.
كذلك الإنسان حين يرى ملائكة الموت (عين اليقين) فإنَّه لا يتكلم معهم بصوت يسمعه الناس من حوله، ولكن يتكلم عن طريق الوحي..
ومن الأدلة على عدم صحة ما نسبته الرواية لسيدنا جبريل؛ هو أنَّ الملائكة ومنهم جبريل – عليهم السلام – لا يفعلون إلَّا ما يؤمرون؛ فكيف يُنسب لسيدنا جبريل أنَّه فعل شيئًا دون أمر من الله – تعالى – ؟!
كما أنَّ الله – تعالى – لا يأمر جبريل – عليه السلام – أن يحول بين فرعون، وإيمانه بالله!
قال الله – تعالى – : ﴿ مَا يُبَدَّلُ ٱلۡقَوۡلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَا۠ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ (٢٩) ﴾ ق.
كل من سيدخل جهنم سيعترف بذنبه؛ فيحق عليه العذاب؛ من هنا: الرواية لا تصح؛ لأنَّها لو صدقت ستُعطي فرعون حجة يوم القيامة: أنَّه كان يريد أن ينطق بالشهادة، لكن جبريل منعه أن ينطق بالشهادة، وكان سببًا في رحمة كان يمكن أن يستحقها حسب ما نتبينه من الرواية (لما أغرق اللهُ فرعون قال: ءامنت أنه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل: يا محمد ﷺ، فلو رأيتني وأنا ءاخذ من حال البحر فأدسه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة)؟!
وعلى ما في ذلك من أخطاء؛ سيبدو (من تلك الرواية) وكأن جبريل – عليه السلام – هو السبب في دخول فرعون النار، وأنَّ الله لم يرحمه بسبب ما فعله جبريل – عليه السلام ـ!
وهذا لا ينبغي في حق الله – تعالى – وقضائه.
ولا يجوز قول: إنَّ جبريل – عليه السلام – فعل ما أدخل فرعون النار!
كيف جعلوا حكم الله على النطق فقط؛ والله يعلم ما تُخفي الصدور، ويقضي بالحق، ولا يظلم أحدًا.
قال الله – عز وجل – : ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) ﴾ الأنعام.
﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١) ﴾ البقرة.
إنَّ موت فرعون كافرًا لم يكن بسبب سيدنا جبريل، ولم يكن ليظلمه الله ابدًا، ولكن شرح فرعونُ بالكفر صدرًا، ولو عاش أبد الدهر ما ءامن فرعون.
قال الله – تعالى – : ﴿ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ (١٧) ﴾ غافر.
ماذا إذا تدبَّرنا بعض الألفاظ في الرواية، ومقارنتها بدقة، وبلاغة الألفاظ في القرءان الكريم:
جاء في الرواية لفظ: (ولمَّا أغرق اللهُ فرعون) وذَكرت بعده من حيث الترتيب الزمني لفظ: (ءامنت أنَّه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل)
(لمَّا أغرق اللهُ فرعون قال: ءامنت أنه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل)!..
ماذا نلاحظ؟
لفظ: (أغرق) فعل ماض، دلَّ على أنَّ فرعون أُغرق بالفعل؛ أي دلَّ على زمن ما بعد موت فرعون؛ بعد أن خرجت نفسه بالموت من الجسم، وتحول جسمه لبدن لا نفس فيه، ولا حياة.
فكيف لفرعون أن يتكلم بعد أن أغرقه اللهُ ويقول: (ءامنت أنه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل..)؟!
وهل الإنسان يتكلم بفمه بعد موته؟!
إنما قول فرعون: (ءامنت أنه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل) كما جاء في القرءان الكريم؛ قاله حين أدركه الغرق، واستيقن أنه هالك، وليس بعد أن أغرقه اللهُ ـ تعالى ـ.
لاحظوا بلاغة الآية: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) ﴾ يونس.
أدركه الغرق تعني أنَّ الغرق تمكن من فرعون، فتمكنت بذلك أسباب الموت منه، ولم يعد لديه فرصة للنجاة حيًا؛ حينها، وليس بعد أن غرق؛ قال: ﴿ ءامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾.
ماذا نتبين مما سبق؟
المفترض من حيث الترتيب الزمني للأحداث هو أنَّ قول فرعون: (ءامنت أنه لا إله إلَّا الذي ءامنت به بنو إسرائيل) يكون قد حدث زمنيًا قبل غرق فرعون، وليس بعده؛ وبالتالي: قبل موته، وليس بعد موته، وتحول جسمه لبدن لا حياة فيه.
إنه يمكنه أن يتكلم وهو في غمرات الموت التي تعني تمكن أسباب الموت من الإنسان، ومجئ الملائكة.
أو في سكرة الموت التي تتم فيها الوفاة، وإخراج النفس من الجسم بالموت؛ أي حين الموت.
بذلك كان ليس من الدقة مجئ لفظ: (لمَّا أغرق اللهُ فرعون) الذي جاء في الرواية؛ ثم ينسب لفرعون بعدها أنه تكلم!
ومن الألفاظ الأخرى التي جاءت في الرواية؛ لفظ: (لمَّا).
وقد تم التفريق من قبل بين لفظي:(لمَّا، فلمَّا)..
ووجدنا أنَّ لفظ: (فلمَّا) بالفاء؛ يدل على الحدث الواحد القصير المتصل زمنيًا (لحظة واحدة) والذي لا يدخل فيه حدث ءاخر.
وكذلك يدل على نهاية الحدث الواحد.
قال الله – تعالى – : ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴾ من الآية (١٤٣) الأعراف.
لم يقل الله: (ولمَّا تجلى ربه للجبل) ولكن من دقة القرءان جاء لفظ: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ ﴾ لأنَّه لا شك أنَّ زمن التجلي كان زمنًا قصيرًا، متصلًا، لم يفصل بينه حدث ءاخر.
إنه دلَّ على لحظة التجلي.
كذلك قول الله – تعالى – في ذات الآية: ﴿ وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴾ قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ فَلَمَّآ أَفَاقَ ﴾ لأنها تصف الَّحظة التي رجع فيها الوعي إلى سيدنا موسى؛ هذه الَّحظة (التي فاق فيها، وفتح عينيه) هي بلا شك لحظة واحدة، رُد إليه فيها: شعوره بالحياة، وإحساسه بالأشياء التي من حوله.
تلك الَّحظة هي وقت قصير، لا يقطعه حدث ءاخر؛ لذلك ومن دقة الألفاظ في القرءان الكريم لم يقل الله – تعالى – : (ولمَّا أفاق).
والآن نتبين الَّفظ الآخر، وهو لفظ: (لمَّا)
يأتي ليدل على أكثر من حدث، في زمن لا يُشترط أن يكون متصلًا.
ما معنى ذلك؟
(لمَّا) تعبر عن أكثر من حدث، أو حدث واحد طويل، ولا يُشترط أن تكون الأحداث متصلة زمنيًا، أو متتابعة، أو مجتمعة في زمن واحد.
قول الله – تعالى : ﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ﴾ من الآية (١٤٣) الأعراف؛ ماذا نتبين منه؟
لأن سيدنا موسى سينتقل وليكن من بيته، ويسافر حتى يصل إلى الجبل؛ فإن ذلك عبر عن زمن طويل، وربما عبرت عن أحداث كثير؛ ذلك ما نتبينه من لفظ: (لمَّا)..
وحين نطبق ما بيناه على الرواية؛ نجد أنَّ لفظ: (أغرق) دلَّ على موت فرعون بالفعل، ولم يأتِ القول: (يُغرق!) الذي يدل على عملية الإغراق، وهو الوقت الذي يكون فرعون لا يزال في الدنيا (لم يمت).
ولأن بعد الغرق مباشرة هي لحظة واحدة، عبرت عن نهاية إغراق فرعون؛ لذلك يكون الوصف المناسب هو لنهاية الإغراق، هو: (فلمَّا أغرق اللهُ فرعون) وليس: (لمَّا أغرق اللهُ فرعون).
(ولمَّا أغرق اللهُ فرعون) التي جاءت في الرواية تعني وجود أكثر من حدث؛ وهذا محال!
لأنَّ غرق فرعون هو حدث واحد، وهو الَّحظة التي مات فرعون فيها، ذلك الحدث لا يقطعه أحداث أخرى.
فكيف يتم التعبير عنه بلفظ: (لمَّا) الذي يدل على أكثر من حدث، أو يدل على الحدث الطويل وليس لحظة نهايته؟!
كان من البلاغة مجئ: (فلمَّا أغرق اللهُ فرعون) لأنها تصف حدث واحد قصير هو الَّحظة التي غرق فيها فرعون؛ أي الَّحظة التي مات فيها بعد أن خرجت نفسه بالموت، وتحول جسمه لبدن لا حياة فيه.
ولكن نعود لما قلناه: بعد أن أغرق اللهُ فرعون؛ لا يمكن لفرعون أن ينطق بالشهادة بعد موته، وتحول جسمه لبدن لا حياة فيه.
و من الاختلافات التي نتبينها في الرواية، و التي تدل كذلك على عدم صحتها؛ مُلاحظتنا أنَّ الرواية لا يُراد بها ما بعد موت فرعون؛ بل أشارت إلى الزمن الذي يسبق موته مباشرة وهو في غمرات الموت؛ وليس بعد غرقه (موته).
كذلك وجود لفظ: (أغرق) صنع في الرواية معضلة؛ لأنَّه دلَّ على: ما بعد الموت، وليس على غمرات الموت أوسكرته!
هنا تتجلى دقة الوصف في قول الله – تعالى – : ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ من الآية (٩٠) يونس.
لاحظوا دقة الوصف في القرءان؛ حين قال: ﴿ أدركه ﴾ ولم يقل: (أغرقه).
لأنَّ الله – تعالى – يصف لنا ما قبل موت فرعون مباشرة؛ أي حين أدركه الغرق فأحاطت به أسباب الموت.
وذلك يعني أنَّ نفس فرعون لا زالت حية في الجسم؛ فيمكن لفرعون أن يتكلم.
في تلك الَّحظة دار حوار بين فرعون، وملائكة الموت.
لذلك قول الله – عز وجل – : ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ ﴾ هو الوصف الدقيق، الذي لا اختلاف فيه، حيث فيه يمكن لفرعون أن يتكلم، ويقول: ﴿ ءامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾.
كذلك من دقة الألفاظ في الآية الكريمة مجئ لفظ: (حتى) الذي يدل على الزمن المتصل، حتى دخل الغرق بالفعل، فجاء الموت، وأحاط بفرعون فلا يمكن أن ينجو منه.
ولفظ: (إذا) يدل على حتمية تحقيق ما بعده، ولفظ (أدرك) جاء في الآية ليُبين لنا الزمن الذي أحاط فيه الغرقُ بفرعون (أي حين جاءت أسباب الموت، وحضرت الملائكة) وكل ذلك من دقة القرءان.
و لأن الله قال: ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ ﴾ يتبين لنا أنَّ فرعون حينها لا يستطيع؛ أن يختار شيئًا.. فكيف لو نطق الشهادة كان يمكن أن يرحمه الله؟!
إنَّها لحظة فارقة بعد أن أيقن فرعون أنه سيهلك، وهي لحظة لا تُقبل فيها توبة؛ وذلك يدل بدوره على أنَّ الرواية ليست صحيحة.
والدليل على أنَّ فرعون لحظة أن أدركه الغرق؛ لم يكن مات بعد، وليس كما جاء في الرواية التي جعلت فرعون يتكلم بعد أن أغرقه اللهُ بالفعل!
ما نتبينه من قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ﴾
هنا قالت له الملائكة: ﴿ ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ (٩١) ﴾ يونس.
فكيف لو نطق بالشهادة كان يمكن أن تُقبل منه، ويرحمه الله – تعالى – ؟!
لنتبين الحق في قول الله – عز وجل – : ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨) ﴾ النساء.
والله أعلم.