قطعًا لا؛ فليست كل ألفاظ الوجه تُشير إلى وجه يُماثل، أو يشبه وجه الإنسان.
ما المراد بالوجه في القرءان الكريم؟
الوجه في القرءان إما وجه معنوي، وإما وجه له عينان.
هل لفظ: (الوجه) هو الأصل؟
الوجه ليس هو الأصل، ولكن الأصل هو التوجه.
لماذا التوجه هو الأصل؟
لأن لفظ (التوجه) هو الذي يحوي الحركة، ويدل على مرور الزمن. وبالتالي: هو الأصل الذي يخرج منه لفظ (الوجه) أي أنَّ التوجه هو الذي يصنع الوجه.
بمعنى: إذا حدث توجه ظهر الوجه الذي يقابل المُتَوَجِه، وإذا لم يحدث توجه لن يكون هناك وجهًا لعدم وجود مُتَوَجِه.
وبذلك فإنَّ لفظ (وجه) هو الفرع الذي يخرج من التوجه (الأصل) عن طريق حركة المُتوجِه، وزمن حركته نحو الُمتَوجَه إليه.
بذلك سيتبين لنا أنَّ لفظ: (وجه الإنسان الذي له عينان) لم يتم تسميته ب: وجه لذاته، أو لأنه هو الأصل، ولكن استمد اسمه كونه يُواجه المُتَجِه إليه؛ أي حين يتوجه شئ ما إلى الإنسان توجهًا ماديًا؛ يصير للإنسان (المُتَجَه إليه) وجهًا.
ذلك هو سبب تسمية الوجه الذي له عينان بالوجه.
من أمثلة الوجه المعنوي: من يعمل شيئًا يُريد به وجه الله تعالى.
إنَّ لفظ: (وجه) هنا أصله من التوجه؛ حيث يتوجه الإنسان بعمله إلى الله لينال به رضوانه.
لذلك سُمي الوجه الذي يقابل عمل الإنسان حين يتوجه به لله ب: (وجه الله).
لماذا؟
لأنه يُقابل عمل الإنسان؛ وبالتالي: (وجه الله) لا تعني وجهًا له عينان.
أمثلة أخرى للوجه المعنوي الذي ينشأ من التوجه:
من يعمل شيئًا يُريد به رضا إنسان سواء كان الإنسان أمامه، أو لم يكن أمامه.
لأنَّ المعنى يتحقق بالتوجه، والنية، وليس بوجود وجه مادي له عينان يُقابل المُتَوَجِه (الذي يقوم بفعل التوجه).
إذًا ما هو سبب تسمية الوجه الذي له عينان بالوجه؟
تمت تسميته بالوجه لأنه مُواجه للمُتَوَجِه (أي في واجهة من يقوم بفعل التوجه).
كذلك من يقوم بفعل التوجه له وجه يُقابل المُتَوَجَه إليه.
ماذا نستفيد مما سبق؟
أنَّ التوجه هو أصل تسمية الوجه الذي له عينان، وليس العكس؛ وهذا ينفي صحة ظن البعض أنَّ أي وجه لا بد أنه يكون المراد به: الوجه الذي له عينان.
لماذا؟
لأنَّ التوجه هو الأصل، وليس الوجه.
إذًا التوجه هو الأصل الذي يخرج منه الألفاظ الأخرى، مثل: الوجه، الواجهة، الجهة، الوجهة؛ لأنَّها ألفاظ مبينة على الحركة، ومرور الزمن حين تنشأ، وتكون؛ فحين يحدث (توجه)، ينشأ (وجه) سواء كان وجهًا معنويًا، أو وجهًا له عينان كوجه الإنسان.
والسؤال الآن: هل يعقل أنَّ يكون لله وجهًا له عينان، لا يكون هذا الوجه إلَّا بوجود المخلوق وتوجهه؟!
لو كان لله وجهًا له عينان فإنه لا يتوقف على وجود المخلوقات وتوجهها.
وهذا لا يتوافق مع لفظ (الوجه) الذي لا يكون إلَّا بوجود المُتَوَجِه.
وبالتالي: الوجه ليس من الصفات التي لله، ولا من صفات البشر؛ لأن الوجه موصوف، وليس صفة.
لكن يمكن أن نصف من خلال الوجه الإنسان؛ لأن الوجه جزء من الإنسان.
ولنعلم أنَّ وجه الإنسان الذي له عينان لا يمكن أن يكون من الصفات، ولكن يُمكن أن يكون من الموصفات.
ذلك لأنه الوجه الذي له عينان هو جزء مادي من جسم الإنسان؛ فيُمكن أن يتم وصف الإنسان من خلال وجهه.
وخلاصة القول هنا: الشئ المادي ليس من الصفات؛ لأن الصفة تكون معنوية، لا نرى ذاتها، ولكن نرى ءاثارها.
هل كل وجه في القرءان يُشير إلى وجه له عينان؟
ليس كل وجه تم ذِكره في القرءان يُشير إلى وجه له عينان.
وهذا يجعلني أطرح هذا السؤال:
كيف زعم البعض أنَّ لله – تعالى – وجه له عينان، لا ينفصل عن ذاته؟!
كيف نستدل من القرءان على أنَّ لفظ (وجه) لا يعني دائمًا وجهًا له عينا؟
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّآ أَفَلَتۡ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗاۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (٧٩) ﴾ الأنعام.
إنَّ لفظ: (وجهي) هنا حتمًا لا يُشير إلى وجه له عينان، ولكن يُشير إلى الواجهة التي توجه بها إبراهيم – عليه السلام – إلى الله وحده.
إذًا وجهي – هنا – من التوجه، ولا تعني وجهًا له عينان.
ولنتذكر: أنَّه ليس دائمًا لفظ: (الوجه) في القرءان الكريم، يُشير إلى الوجه الذي له عينان.
مثل: (وجه النهار) الذي جاء في قول الله – تعالى – : ﴿ وَقَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (٧٢) ﴾ آل عمران.
هذه ءاية تبين لنا أنَّ لفظ: (وجه) لا يعني دائمًا الوجه الذي عينان، ولكن يُمكن أن تصف كذلك الوجه المعنوي، أو وجهًا ماديًا ليس له عينان.
فهل لو أخذنا بقولهم: (وجه الله) هي وجه له عينان، يكون بذلك للنهار وجهًا له عينان؟!
أم أنهم سيقولون: كيف يكون للنهار وجهًا له عينان؟! ولا ينزهون الله عن ذلك؟!
إنما المراد الحق هو: أنَّ النهار مخلوق يتوجه إلى الناس عبر زمن؛ فنشأ بسبب ذلك التوجه وجه نُسب للنهار؛ أي صار للنهار وجهًا (من التوجه، والوجهة) وليس وجهًا له عينان.
أي حين يتوجه النهارُ للناس (يُقبل عليهم) صار له وجهًا يواجههم.
إذًا وجه النهار هو: وجه من التوجه، ولا يعني وجهًا له عينان.
لذلك نحن لا نأخذ التعبير هنا على المجاز.
لماذا؟
لأنهم قالوا: وجه الله حقيقي؛ أي له عينان، وليس مجازيًا!
ونقول لهم: (وجه الله) هو وصف حق، ولكن ليس الوجه الذي له عينان.
أي لا محاز، ولكن لنضع اللفظ في موضعه وهو: وجه يقابل أعمالنا؛ أي وجه من التوجه، والوجهة.
ذلك يعني: أننا نأخذ لفظ: (وجه) على حقيقته وهو: أنَّ الوجه حين يُنسب لله فهو يعني وجه من التوجه، ولا يعني الوجه الذي له عينان.
أم لا يُعقل أن يكون للنهار وجهًا يُشبه وجه الإنسان (له عينان) ويُعقل أن يكون لله وجهًا يشبه وجه الإنسان؟!
تعالى اللهُ عما يصفون.
وبصفة عامة فإنَّ المُتَوجِه، والمُتَوجَه إليه كلاهما ينشأ عنه الوجه الذي ينشأ من الحركة، والزمن.
ومزيدًا من التفصيل من خلال ءايات القرءان:
من بلاغة البيان في القرءان ما نستنبطه من قول الله – تعالى – : ﴿ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن زَكَوٰةٖ تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ (٣٩) ﴾ الروم.
﴿ تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ ﴾ نجد فيها معنى التوجه؛ وبالتالي: ما يواجه المتوجه بعمله وهو: وجه الله، وليس المراد بها الوجه الذي له عينان.
ما هو مراد الآية الكريمة؟
أنهم يُريدون التوجه بأعمالهم إلى الله لينالوا بها رضوانه.
ولا يعقل أنَّهم يُريدون وجهًا له عينان!
نفقه من ذلك أنَّ لفظ: (وجه الله) يتطلب وجود مخلوقات تتوجه إلى ربها – عز وجل – لأنَّ وجه الله هو ما يُقابل أعمالهم التي يتوجهون بها إلى ربهم؛ فلا وجه دون مُتَوَجِه.
ماذا نستنبط من ذلك؟
أنه لا يُراد بالوجه حين يُنسب لله بالوجه الذي له عينان، حتى لا نقع في التجسيم، أو التشبيه.
إنَّ الوجه في القرءان يُنسب لله انتساب ملكية، مثل: انتساب (عباد) لله؛ قال اللهُ – سبحانه وتعالى – : ﴿ عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا (٦) ﴾ الإنسان.
فقد دلَّ لفظ: (عباد الله) على الملكية.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۘ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (٨٨) ﴾ القصص.
لقد بينت الآية الكريمة أنَّ من يتوجه إلى الأصنام؛ فإنَّ الأصنام ستهلك، وكذلك ستهلك وجوهها التي نشأت حين توجه المشركون إليها (بعد أن عبدوها من دون الله).
لكن يبقى التوجه إلى الله لا ينقطع أبدًا.
وحين ينشأ التوجه إلى الله؛ ينشأ في ذات الوقت وجه الله الذي يواجه أعمالنا؛ لأنَّه هو الشئ الوحيد الذي لا يهلك مع باقي الوجوه الأخرى.
لذلك من المستحيل أن يكون المُراد (بوجهه) نفس الخالق – سبحانه وتعالى – أو وجه له عينان لا ينفصل عنه؛ لأنَّ وجود الله لا يتوقف على وجود المخلوقات، وصفات الله لا تتوقف على المخلوقات، ولا يكتسبها بمرور الزمن.
فصفة الرحمة لم يكتسبها اللهُ بعد أن خلق المخلوقات؛ بل هي بلا زمن، غير مخلوقة، هي من صفات الله سواء خلق المخلوقات، أو لم يخلقها.
هل يعقل أن ينسبون لله الوجه الذي له عينان؛ ثم يقولون أنَّ هذا الوجه لا يهلك؟!
نقول لهم: وماذا عن: اليدين، والساقين، والأصابع التي جعلتها لله؛ هل تهلك، ويبقى الوجه فقط؟!
أليس ذلك دليل على خطأهم حين جعلوا لله – تعالى – وجهًا يُشبه وجه الإنسان؟!
إنما الوجه حين يُنسب لله يكون وجهًا من التوجه، وليس وجهًا له عينان.
لماذا؟
لأن التوجه لله لا يهلك (لا ينتهي) عكس الوجوه الأخرى التي كانت تتوجه إليها المخلوقات في الدنيا.
ولِمَا لا وقد كان في الاستثناء: ﴿ كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥ﴾ دليلًا على أنَّ الوجه من الأشياء؛ لأنه مخلوق، ينشأ بتوجه المُتَوَجِه.
كيف يضع اللهُ – تعالى – نفسه مع الأشياء التي ستهلك حتى يستثني نفسه من الهلاك معها؟!
ذلك دليل على أنَّ الوجه هنا من التوجه؛ فالتوجه إلى الله لا يهلك، أو ينتهي.
دائمًا يتبين لنا أنَّ انتساب لفظ: (الوجه) لله – عز وجل – سببه وجود مخلوقات؛ وهو وجه ينشأ من توجه المخلوقات إلى الله.
نجد ذلك في ألفاظ أخرى تتطلب وجود مخلوقات، مثل: لفظ (ربنا) يظهر حين توجد مخلوقات، كذلك لفظ (خالق) يدل على وجود مخلوقات لله تعالى، بينما لفظ: (إله)، ولفظ الجلالة: (الله) لا يتوقف أن على وجود مخلوقات؛ بل هما موجودان سواء وُجدت مخلوقات، أو لم تُوجد.
مما سبق نتبين أنَّ لفظ: (وجه الله) في القرءان نشأ بسبب التوجه الذي قام به المخلوق حين توجه بعمله إلى الله تعالى.
والأمثلة على أنَّ التوجه يكون مخلوقًا؛ كثيرة؛ كمن يفعل الخير يُريد به وجه الله؛ أي توجه بفعل الخير إلى الله – تعالى -.
كذلك حين نتوجه في الصلاة إلى الله – سبحانه وتعالى – نجد أنَّ ذلك توجه مخلوق (مادي)؛ لأنَّنا نتوجه نحو القبلة، وهو: (اتجاه مادي) بأقوال، وأفعال كلها مخلوقة (مادية) نُريد بها وجه الله.
وبذلك نستدل على أنَّ وجه الله الذي يقابل صلاتنا؛ لا يعني وجه يُشبه وجه الإنسان الذي له عينان، ولكن هو الوجه الذي يقابل أعمالنا حين نتوجه بها إلى الله لننال بها رضوانه.
والمعنى في قول الله – عز وجل – : ﴿ وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ (١١٥) ﴾ البقرة؛ هو من أحد الأدلة القوية على أنَّ (وجه الله) ليس هو الوجه الذي له عينان؛ ولكن الوجه هنا من التوجه.
حتى من اشركوا بالله نراهم يوم القيامة يتوجهون إلى الله، ولا يتوجهون إلى الأصنام التي عبدوها من دون الله في الحياة الدنيا.
لأنهم علموا أنها لن تنقذهم في ذلك اليوم من العذاب بعد ما عرفوا أنَّ الله هو الحق، وأنَّ أصنامهم هي الباطل، وأنها لا تضر، ولا تنفع.
وفي النهاية؛ ربما يتيسر لنا اتخاذ قاعدة لنتبين المراد بلفظ: (الوجه) كما نتبينه من القرءان الكريم:
في حال وجود وجه؛ فحتمًا هناك مُتوجِه؛ لأنَّ وجود الوجه يلزمه وجود المُتَوَجِه إليه.
وهذا يعني أنَّ الوجه ينشأ بسبب حركة المُتوجِه إلى المُتَوَجَه إليه.
كما تبين لنا أنَّ (وجه الله) لا يعني أنه جزءًا من نفس الخالق – تعالى اللهُ عما يصفون – إنَّما هو وجه ينشأ بوجود مخلوقات تتوجه إليه.
فلو كان المراد بوجه الله وجهًا له عينان، لا ينفصل عن ذاته؛ إذًا لماذا تم استثناء الوجه من الهلاك، وماذا عن الأعضاء التي نسبوها لله؛ كاليد والعينين، والقدمين، والأصابع، والساقين؟!
لماذا لم يتم استثنائها من الهلاك كالوجه لو كان الوجه هو وجهًا له عينان؟!
ذلك دليل على أنهم أساءوا إلى الله حين جعلوا له وجهًا له عينان، وحين جعلوا له أعضاءً تُشبه أعضاء الإنسان.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ﴾ من الآية (١١) الشورى.
من هذه الآية المحكمة؛ فإنَّه لا ينبغي لأحد أن يزعم أنَّ وجه الله هو وجه له عينان، أو القول: الوجه هو ذات الله؛ فالله لا يحويه مكان، ولا يحده اتجاه، ولا يمر عليه زمن.
تعالى اللهُ خالق كل شئ (وخالق العرش) عما يصفون.
والله أعلم.