إنَّ تدبر القرءان لهو خير ما نتبين به ءايات الله، ونستنبط منها الحق..
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) ﴾ البقرة؛ قالوا: إنَّ هذه الآية نسخت قول الله – تعالى – : ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) ﴾ البقرة.
البعض قال: إنَّ عدة المرأة التي مات زوجها كانت حول، ثم نُسخت إلى أربعة أشهر وعشرًا!
وفي ذلك قول
كيف تغير خلق الله وما لجسم المرأة من صفات خلقية وصفات؟!
كيف كان يحدث الحمل خلال مدة حول؛ ثم أصبح يحدث في مدة أربعة أشهر وعشرًا؟!
نسخ الأحكام يكون المراد به نسخ حكمًا من رسالة سابقة بحكم ءاخر أتت به رسالة لاحقة، مثل: أنَّ القرءان نسخ أحكام التوراة، والإنجيل.
ولا يُراد بالنسخ تغيير الصفات الخلقية للإنسان، مثل: تغيير هرمونات جسم المرأة لتتغير مدة حدوث الحمل؛ فبدلًا من أن تكون في مدة حول، تصبح في مدة أربعة أشهر وعشرًا؛ هذا ليس مراد الآيات.
فما هو مراد الآيات الكريمة؟
ذلك نتبينه من بلاغة البيان في القرءان، ودقة ألفاظه، وكيف أنَّ لكل لفظ دلالة خاصة به لا تؤديها الألفاظ الأخرى..
إنَّ ما نتبينه من الآيات الكريمة حين نتدبرها، هو
عدة المرأة هي مدة محددة لا تتغير؛ وهذا يتوافق مع سنة الله في خلقه.
لماذا لا تتغير؟
لأنها لو تغيرت لأصبح من المستحيل أن نطبق أحكام الآيات التي تبين للناس: متى يجوز للمرأة المطلقة، أو الأرملة أن تتزوج؟!
ومتى يتم توزيع الميراث دون ظلم!
ولن نجد حكمًا قاطعًا يجنب اختلاط الأنساب؛ لعدم ثبات مدة تبين حدوث الحمل بشكل قاطع..
إذًا كيف نستنبط مراد الآيات التي ظنوا أنها ما بين: ناسخ، ومنسوخ؟
إنَّ الآية الأولى تحدثت عن عدة المرأة التي مات زوجها، ويظهر ذلك من لفظ: (عدة) الذي يدل على العدد المحدد وهو أربعة أشهر وعشرًا.
مثل: عدة رمضان التي تدل على عدد محدد لا نتبينه إلَّا بعد انتهاء الشهر؛ حيث يكون من أفطر بعذر المرض، أو السفر على علم بعدد أيام الشهر بعد انتهائه فيستكمل العدة.
ألفاظ بالغة الدقة نتبينها بتدبر القرءان
من الألفاظ بالغة الدقة في الآية لفظ: (يتربصنَ) فهو يدل على الرقابة الشديدة من الزوجة لنفسها المدة التي قد يحدث فيها الحمل.
وهذا يتوافق مع المراد، وهو: تبينها إن حدث حمل، أم لا.
ومن دقة الألفاظ في الآية قول الله – تعالى – : ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي انتهت فترة العدة التي هي أربعة أشهر وعشرًا؛ لأن بلوغ الأجل يعني أنها مدة محددة لا تزيد المرأة عليها، هي التي نتبين فيها إن كانت حملًا أم لا.
بعد بلوغ الأجل، وعدم حدوث حمل؛ فلا جناح عليها في أن تتزوج، أو تترك البيت قبل انتهاء الحول.
وننتقل إلى قول الله – تعالى – : ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) ﴾.
المرأة التي مات زوجها وصية لها من زوجها قبل وفاته بعدم إخراجها من البيت متاعًا إلى الحول ﴿ وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾.
والمتاع هو ما ينتفع به الإنسان- وهنا – هو عائد على البيت؛ لأن البيت متاع. وهذا ما يتوافق مع لفظ وصية، حتى يمكنها أن توفق أمرها خلال الحول.
لأن الوصية تكون من أجل الزوجة في أن تتواجد في بيت زوجها متاعًا لها إلى الحول.
ولا تكون العدة وانتهاؤها من وصية الزوج؛ بل هي من شرع الله لأنها حق لله وحده، لا يتحكم فيها أحد: فليس لهم أن يغيروا مدتها.
الوصية قد تنفذ وقد لا تنفذ، لكن العدة لا بد أن تنفذ؛ فهي لا تخضع للأهواء، ولا للرغبات.
هذا ما نستنبطه من بلاغة البيان، ودقة الألفاظ في القرءان الكريم.
معنى المتاع كما جاء في القرءان:
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣) ﴾ النازعات.
الجبال بها متاع للناس وللأنعام بما تحويه من عناصر غذائية، وما ينزل عليها من ماء يملأ الأنهار والبحيرات، وغير ذلك من المنافع (المتاع).
﴿ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) ﴾ الزخرف.
الآية بالغة؛ حيث بيَّنت معنى المتاع بشكل قاطع.
فالمتاع هو ما ينتفع به الناس من طعام، وبيوت، وأرض..
مما سبق نتبين أنَّ كل ءاية بيَّنت حكمًا خاصًا بها، وليس حكمًا واحدًا.
ءاية بينت فترة العدة، وهي: أربعة أشهر وعشرًا، وجاء معها ألفاظ تدل على أنَّ المراد بها مدة الحمل، مثل: (يتربصن، بأنفسهن)..
والآية الأخرى بينت الوصية، وهي: لا ينبغي إخراج الزوجة التي مات زوجها من البيت متاع إلى الحول.
ما الحكمة من ذلك؟
لعلها توفق أوضاعها: تتزوج، أو تعود إلى منزل أبيها، أو محرم لها، أو تشتري سكنًا.
ومن بلاغة الآية احتوت ألفاظًا، مثل: (وصية، لأزواجهم، متاعًا).
وهو ما يدل على أن الأمر – هنا – هو وصية من الزوج، وليس له علاقة بالمدة التي يتم فيها تبين حدوث حمل أم لا.
لأن مدة تبيُّن الحمل (العدة) ليست وصية من الزوج لزوجته، ولكن هي حق لله وحده لا يمكن أن تتغير.
والله أعلم.