قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ ﴾ من الآية (٤) المنافقون.
لماذا جاءت: ﴿ أَجۡسَامُهُمۡ ﴾ مرفوعة، ولم تأتِ: (أجسامَهُم) منصوبة؟
قد يبدو أنَّ أجسامهم: مفعول به، لكن عند تدبر القرءان، وتبيُّن دقة وصفه التي لها قواعدها الخاصة؛ نستنبط أنَّ: ﴿ أجسامُهُم ﴾ بالرفع هي الوصف الدقيق، وليس: (أجسامَهُم).
البيان في القرءان يفرق بين: المشاعر التي تتم بإرادة الإنسان كالإيمان، وبين المشاعر التي تتم دون إرادته كالفرح والسعادة، والتعجب.
فلو قال البعض: إنَّ النبي ﷺ هو من تعجب بإرادته من أجسام المنافقين؛ سيبدو أنَّ أجسامهم هي التي وقع عليها تأثير فعل التعجب!
فيكون تحليلهم كالتالي: من الذي تعجب؟
سيقولون: النبي ﷺ ؛ إذًا النبي ﷺ فاعل، وممَّا تعجب؟
سيقولون: من أجسامهم؛ إذًا أجسامهم مفعول به!
لكن بتحليلهم هذا سيكونوا قد ذهبوا بعيدًا عن دقة البيان في القرءان..
نعم النبي ﷺ هو من سيتعجب إذا رأى أجسام المنافقين، ولكن مشاعر التعجب هي مشاعر لا تنشأ في النفس بإرادة النبي ﷺ، ولكن بقدرة الله ـ تعالى ـ .
وكذلك لا أقول أنَّ أجسامهم فاعل؛ بل هي مؤثر.
وهل من فرق بين الفاعل، والمؤثر؟
نعم؛ لأنَّ رؤيتها (رؤية أجسام المنافقين) هي التي تتسبب في حدوث مشاعر التعجب في النفس؛ فالأجسام لا يأتي منها فعل، ولكن رؤيتها هي التي أثرت في النفس؛ فتكون الأجسام (بذلك) هي المؤثر، وليس الفاعل.
إذا رأى النبي ﷺ أجسام المشركين فإن تلك الأجسام سيكون لها تأثيرًا على النفس؛ وهو الشئ الذي يؤدي إلى نشأة مشاعر التعجب في نفس النبي ﷺ.
من أمثلة تأثير الشئ على النفس
إذا رأى إنسان حديقة جميلة؛ فتعجب من جمالها؛ فإن مشاعر التعجب التي نشأت في نفسه كان سببها التأثير الذي أحدثه جمال تلك الحديقة في نفسه.
ولكن هل الحديقة هنا هي الفاعل، أم المؤثر؟
من أمثلة الفاعل: إنسان يقود سيارة، يزرع، يجمع الفاكهة؛ الإنسان هو من فعل.
ولكن في حال نشأة مشاعر التعجب من جمال الحديقة؛ فإن الحديقة هنا مؤثر على النفس، وليست فاعل.
لماذا؟
لأنه لم يصدر فعل من الحديقة يماثل فعل قيادة الإنسان لسيارات مثلًا.
الحديقة مؤثرة، وليست فاعلة.
لماذا ليست فاعلة؟
لأنها لم تسعَ لأن يتعجب الإنسان منها؛ لأنَّه لا إرادة لها في كونها أثرت في نفسه، أو لا.
ولكن التأثير الذي وقع في نفسه من جمال الحديقة؛ نشأ في نفسه بقدرة الله ـ تعالى ـ ؛ فنقول: إنَّ الحديقة هي المؤثر في النفس (دون إرادة منها) لأنَّ التعجب من المشاعر التي لا يتكلم فيها الإنسان، ذلك لأن المشاعر تنشأ في النفس لا إراديًا (كذلك النفس لم تتعجب بإرادتها).
إذًا (أجسامُهُم) في قول الله ـ تعالى ـ: ﴿ وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ ﴾ جاءت مرفوعة، وليست منصوبة؛ لأنها هي صاحبة التأثير على النفس؛ فحين أثرت على النفس نشأت مشاعر التعجب.
لقد تكرر ذلك في القرءان؛ وهو ما يثبت بلاغة البيان في القرءان الكريم.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٥٥) ﴾ التوبة.
قال: ﴿ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ ﴾ فجاء كلاهما مرفوع، وليس منصوبًا؛ ذلك من دقة الألفاظ، ومواضعها في الآيات.
وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ (٨٥) ﴾.
يبدو أنَّ أداة النصب هي التي تتوافق مع ظن البعض على أساس أنَّ ألفاظ: (أموالهم، أولادهم) هي من وقع عليها فعل التعجب! ولكن الحق؛ هي من أحدثت التأثير الذي جعل مشاعر التعجب تنشأ في النفس.
ماذا نتبين من دقة البيان في القرءان؟
أنَّ المشاعر (بصفة عامة) لا تكون بإرادة الإنسان؛ فليس للإنسان أن يحزن، أو يفرح بإرادته؛ إنَّما هي مشاعر لا إرادية (كرد فعل على شئ غير متوقع) فتنشأ المشاعر في النفس بقدرة الله وحده.
الضحك، والبكاء كلاهما ينشأ من تأثر النفسَ لا إراديًا بمشاعر معينة؛ ويتبين لنا ذلك في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضۡحَكَ وَأَبۡكَىٰ (٤٣) وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحۡيَا (٤٤) ﴾ النجم؛ الذي يأتي من مشاعر حقيقية، وليس من تكلف.
لكن للإنسان القدرة على أن يتحكم في مشاعره (قدر المستطاع) وذلك بإرادة الله ـ تعالى ـ .
إنَّ ألفاظ: (أجسامهم، أموالهم، أولادهم) جاءت مرفوعة لأنها هي التي أثرت على النفس؛ لذلك لم تأتِ في موضع المفعول به، ولا الذي وقع عليه تأثير الفعل.
وبالتالي مجيء هذه الألفاظ مرفوعة دل على دقة القرءان، وبين أن هذه الألفاظ هي التي أثرت على النفس وليس العكس، وبين لنا أنَّ أغلب المشاعر تكون لا إرادية في نفس الإنسان نتيجة تأثرها بالأشياء من حولها، أو بما يدور بداخلها من رغبات.
والله أعلم