ومن يظن أنها حُرمت بعد أنَّ نُزِّل القرءان؛ فقد أحدث مُعضلة!
لأنه خلط بذلك بين التحريم، والنهي.
القرءان الكريم يُعبر عن مراد الله بدقة لا ترتبط فقط بزمن النبي ﷺ .
فحين يأتي القول مثلًا ليُعبر عن المُحرمات كالزنى، والقتل بغير الحق، وأكل المال بالباطل، وشهادة الزور، وغيرها من المُحرمات التي لا تقتصر على زمن دون ءاخر، ولا على بشر دون ءاخرين؛ فإن بلاغة القول تأتي متوافقة مع ذلك التحريم المطلق الذي سبق نزول القرءان.
ومن بين المُحرمات التي لا تقتصر على زمن، أو بشر: الخمر؛ فهي مُحرمة منذ ءادم (عليه السلام)، وليس بعد أنَّ نُزِّل القرءان.
إنَّها تذهب بالعقل في كل وقت؛ لذلك فهي مُحرمة قبل أن يُنزَّل القرءان.
ما الدليل على ذلك؟
الدليل هو أنَّ الأنبياء لم يشربوا الخمر.
فالخمر كانت موجودة قبل أن يُبعث النبي ﷺ.
ويظهر ذلك في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ ﴾ من الآية (٣٦) يوسف؛ كان ذلك في زمن يوسف (عليه السلام).
من يظن أنَّ الخمر حُرمت بعد أن نزَّل الله ـ تعالى ـ القرءان (ولو كان يقصد بذلك قوم النبي ﷺ) فقد أخطأ؛ لأنَّه جعل التحريم في حد ذاته مُتدرجًا، يُقابله حلالًا مُتدرجًا؛ ليسد الفراغ في نقص التحريم (لأنَّه جعل التحريم متدرجًا!) وهذا لا ينبغي أبدًا؛ لأنَّ التدرج يكون في النهي، وليس في التحريم.
الله ـ تعالى ـ لم يُحلل الخمر أبدًا (للسبب الذي ذَكرته).
فكيف ظن البعض أنَّ تحريمها جاء مُتدرجًا؟!
يبدو أنَّ الظن بتحريم الخمر بالتدرج؛ سببه الخلط بين التحريم، والنهي!
إن ما حدث حين كان يُنزَّل القرءان؛ هو تدرج النهي عن شرب الخمر، وليس تدرج التحريم؛ لأنَّها (كما بينت) الخمر مُحرمة بشكل مطلق، وليس نسبي حتى قبل أن يُنزل القرءان.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ من الآية (٤٣) النساء؛ هذا من الأدلة
على تدرج النهي عن شرب الخمر؛ فالله ـ تعالى ـ هنا ينهاهم عن الصلاة وهم سكارى؛ ليعتادوا (بشكل متدرج) على الإقلاع عن شربها حتى يُمكنهم التوقف عن شربها بشكل كامل.
إنَّها حكمة الله في كيفية التعامل مع من يشرب الخمر قبل أن يدخل الإسلام.
لماذا نهى الله ـ تعالى ـ عن شرب الخمر بشكل متدرج، وليس مرة واحدة؟
لأنَّه الله هو العليم الخبير؛ فالله خالق كل شئ، ويعلم أنَّ الانتهاء عن شرب الخمر لا يكون مرة واحدة؛ لأنَّ الجسم اعتاد على شربها (فهي أشبه بالإدمان) قد يصعب على البعض الإقلاع عنها مرة واحدة.
لذلك كان التدرج في النهي عن شربها حتى يعتاد الجسم على تركها بشكل كامل مع الوقت (خاصة حين يزداد الإيمان في قلب الإنسان؛ فيكون بإذن الله قادرًا على تركها).
وهذا أراه من دقة القرءان في التعامل مع الأمور التي تحتاج إلى وقت.
ونفقه من ذلك: أنَّ من يدخل الإسلام في وقتنا الحالي (وهو مُعتاد على شرب الخمر)، يتم التعامل معه كما كان الأمر في زمن النبي ﷺ بتدرج النهي عن شرب الخمر، حتى يعتاد على ذلك، ويزيد الإيمان في قلبه.
ولكن هناك من يدخل الإسلام ويمكنه التوقف المباشر عن شرب الخمر دون تدرج.
ذلك لأنَّ الإيمان، والعزيمة يختلفان من إنسان لآخر.
من أسباب تحريم الخمر ما نتبينه من قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ
وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ (٩١) ﴾ المائدة.
لفظ: (فاجتنبوه) يدل على أنَّ الرجس موجود دائمًا حولهم، وقد يتعرض له الإنسان دون إرادته فعلى الناس أن يجتنبوا الرجس.
قوم النبي ﷺ كانوا مُعتادين على شرب الخمر، ربما لم يظنوا أنه شئ محرم؛ لذلك بدأ النهي عن شرب الخمر بشكل مُتدرج حتى يعتادوا مع الوقت على التخلي عن شربها، ومع ازدياد الإيمان في قلوبهم بالله يُصبح النهي كاملًا لأنه سيكون مُيسرًا عليهم اجتناب الخمر بعد فترة من النهي المتدرج، التي علموا فيها أضرار الخمر، وأنَّ الله حرمه، وكذلك بعد أن ازداد إيمانهم بربهم الذي يجعلهم أكثر قدرة على تنفيذ أمر الله ـ تعالى ـ .
قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ﴾ هو أمر بالتوقف عن شرب الخمر بعد أن مر وقت، وتدربوا على تركه بالتدريج، وزاد الإيمان في قلوبهم؛ فلا يجب أن يشربوها بعد ذلك.
وكما قلت: الاجتناب معناه أن الرجس ومنه الخمر موجود، وعلى المؤمن أن يتجنب الخمر فلا يقترب حتى ممن يشربها.
لماذا؟
لئلا يضعف فيشربها، أو يعود إليها.
وقوله سبحانه و ـ تعالى ـ : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ
ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ (٩١) ﴾ يضع نهاية لشرب الخمر بعد أن اعتادوا على التقليل من شربها (كما بينت) وزاد الإيمان في قلوبهم.
إذًا هو تدرج في النهي، وليس تدرج في التحريم؛ لماذا؟
لأنَّ الإنسان الذي اعتاد عليها قد يصعب عليه التوقف عن شربها فجأة؛ لذلك فهو في حاجة إلى وقت حتى يعتاد على التوقف عن شربها.
إنَّ تحريم الخمر سابق بلا شك تنزيل القرءان؛ لأنَّ الخمر مُحرمة في كل الأزمنة التي بُعث فيها الأنبياء، ولا شك أنها كانت مُحرمة
في عهدهم، وليس فقط بعد نزول القرءان؛ فلا ينبغي أن نقول: إنَّ الخمر تم تحريمها بالتدرج؛ بل نقول: إنَّ الخمر تم النهي عن شربها بالتدرج.
والله أعلم.