وكان سبب ظهور تلك المزاعم هو: وجود ءاثار لبني إسرائيل في اليمن!
وجود ءاثار لبني إسرائيل في اليمن لا إشكال فيه فبعضهم خرج من مصر وسكن في بقاع مختلفة من الأرض كاليمن، والحجاز، وغيرهما.
أي أنَّ ذلك لا يعني أنَّ فرعون كان في اليمن!
نحن نتيقن من أنَّ من أهل الكتاب من كانوا يسكنون في المدينة المنورة؛ فهل (وفقًا) لذات المقياس، كان فرعون في المدينة في الحجاز؟! بالطبع لا.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا (٢٦) وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا (٢٧) ﴾ الأحزاب.
والعجيب أنَّ الأبحاث البشرية الأخيرة التي تُريد أن تُثبت أنَّ فرعون كان في اليمن؛ هي ذاتها التي تريد أن تثبت أنَّ فرعون كان في العراق، وفلسطين، وغيرها من البلاد!
لو كانت العبرة بوجود ءاثار لبني إسرائيل، واليهود في مكان ما ليتحدد مكان فرعون؛ فكيف كان فرعون في شمال الحجاز، وفي ذات الوقت كان في اليمن!
ولكن ما حدث هو أنَّ من بني إسرائيل، ومن اليهود من هاجر إلى اليمن، ومنهم من هاجر إلى شمال الحجاز وسكنوا فيهما وغيرهما من البلاد.
فما يُساق من مزاعم في الفترة الأخيرة؛ ازداد وانتشر بشكل أصبح يشير إلى: عدم إلمام الباحث بالحقائق التي تتوافق مع القرءان (من قبل أصحاب النوايا السليمة) وتزييف متعمد ممن يقصدون ظهور ما يلي:
أنَّ القرءان لا يتوافق مع ما يثبته العلم من حقائق (لا تقبل الجدل) وحينها سيزعمون أنَّ القرءان هو الذي أخطأ؛ ليشككوا الناس في كلام الله.
بل ذلك هو ما حدث بالفعل ممن يظهرون أنفسهم أنَّهم مسلمون.
منهم من قال: إنَّ قصة موسى وفرعون، وقصة إبراهيم، لم تكن قصص حقيقية، وأنَّ سيدنا سليمان لم يكن شخصية حقيقية؟!
والتساؤل: كيف يزعم أحدهم أنه مسلم؛ وهو يُخالف القرءان؟!
بل كيف زعم أنَّ ما أشار إليه القرءان من أحداث؛ أخذها من الحضارات القديمة حين قال: إنَّ الدين مجرد أساطير، وما ذكره القرءان من أحداث تاريخية لبعض الحضارات القديمة، يُخالف الحقائق المدونة، أو المرويات التاريخية؟!
إنَّ القول بأن: قصة سيدنا موسى وفرعون لم تكن في مصر بوادي النيل هو محاولة من قبل البعض لتزييف الحق؛ ثم تزييف الدين، وهدم ثوابته من أمثلة ما يتم التشكيك فيه.
أحداث ذي القرنين، وأهل الكهف.
إنَّ قول البعض: إبراهيم (عليه السلام) لم يكن شخصية حقيقية، واختلاف البعض الآخر حول مكان الكعبة.
إنهم يحاولون تشكيك الناس في الأماكن المقدسة، والأحداث؛ وبالتالي: هدم ثوابت الدين ومنها القرءان الكريم.
وقال بعضهم عن القصص في القرءان وعن الدين: أساطير الأولين.
وهذا ما قاله من جاءوا قبلهم: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) ﴾ الفرقان.
والتساؤل كيف نأخذ أقوالهم على أنَّها حق، وهم مختلفون في مكان فرعون؟!
فالحذر من الإنسياق وراء تلك الادعاءات؛ لأنَّ المؤمن هدفه هو الحق.
التاريخ قابل للتغير، لكن هناك أمور ثابتة؛ بل يتوافق بعضها مع كتاب الله، ومن بينها مكان فرعون (الذي أشار القرءان أنه غربي البحر الأحمر).
كثير من الحقائق ستظهر؛ ليعلم الناس كيف بدأ الله الخلق، وذلك لن يقتصر على علوم الفلك، والطب والبحار، وعلوم طبقات الأرض؛ بل سيمتد إلى علم التاريخ، والحضارات..
لماذا؟
لأنَّ ذلك يكون له دورًا في أن يتيقن الإنسان أنَّ القرءان هو كلام الله، وليس كلام بشر، وأنَّ وعده الحق.
ولنعلم أنَّ الله خلقنا لنعبده، ومن هذه العبادة التفكر، واستنباط الحقائق (والتمسك بها) وذلك من خلال العقل، وقدرة الإنسان على التعلم، والتطور، والبناء، واكتشاف الحقيقة بما لديه من مقدمات.
فالله لا يُريد من الإنسان أن يكون مجرد مُتلقي لا يُفكر، أو يعقل؛ ولا يستنبط النتائج بنفسه؛ وإلَّا جعلنا ملائكة.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (٣) ﴾ الرعد.
﴿ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ (٤٦) ﴾ الحج.
الله أراد منَّا أن نتفكر في خلق السموات والأرض، وأن نستنبط العلم بما لدينا من قدرات، ومن عقل يوازن بين الأمور؛ فيحسب نتائجها وتوابعها قدر المستطاع.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (٢٠) ﴾ العنكبوت.
إنَّ: (البحث في التاريخ، والحضارات) يحتاج مجهودًا كبيرًا، ومصداقية لدى الباحث تُنحي التعصب (تمامًا) ليكون استنباط الحق هو الهدف أمام الباحثين.
من حضارات اليمن: مملكة سبأ، مملكة حضرموت، مملكة حميَّر، مملكة معين، ولم يكن من بينها مملكة، أو حضارة تسمى مصر؛ وفرعون كان له مُلك مصر.
ومن دقة ذلك في القرءان؛ أن يأتي الاثبات في ءاية واحدة لا يُمكن بعدها أن تُغير الأبحاثُ مكان موسى، وفرعون مهما حاول من يُريدون تشكيك الناس في القرءان، وليس التاريخ فقط..
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (٤٤) ﴾ القصص؛ للبحر الأحمر جانبان: (شرقي، وغربي)، وحوله قامت أغلب الحضارات، وأُرسل أغلب الأنبياء في تاريخ بني ءادم (عليه السلام).
مصر حسب القرءان بجانب الغربي، وليست في الجانب الشرقي للبحر الاحمر: ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ ﴾.
والشئ الذي له جانبان كما في الآية لا شك أنَّه يفصل بين قطعتين من اليابسة، وذلك هو مراد الآية.
لفظ: (الجانبان) يفقه منه: أنَّه يُوجد شئ يفصل بين شيئين ءاخرين، مثل: النهر الذي يفصل بين الساحلين، أو الطريق الذي يفصلُ بين المباني التي تُوجد على جانبيه.
وقد يُطلق على الجانبين لفظ: يمين، وشمال، أو جنوبي، وشمالي، أو شرقي، وغربي.
وهنا وصف القرءان الجانب الذي كان فيه موسى وفرعون بالغربي.
نفقه من ذلك أنَّ جانب الشرقي كان فيه النبي ﷺ حين كان يُوحى إليه؛ ليتوافق ذلك الوصف مع البحر الأحمر حين يكون الوصف مُتعلقًا بطلوع الشمس من جانب الشرقي للبحر الأحمر، وغروبها من جانبه الغربي (للبحر الأحمر).
والدليل على ذلك: أنَّ موسى (عليه السلام) ضرب البحر بعصاه؛ ليعبر إلى الجانب الآخر؛ أي أنَّ موسى عبر من الأرض التي كان يطارده فرعون فيها، إلى الأرض التي تقع على الجانب الآخر من البحر (البحر الأحمر، وليس النهر) الذي انشق لموسى.
لماذا بحر ملح وليس نهر؟
لأنَّ يأس من كانوا مع موسى من بني إسرائيل؛ يدل على أنَّه بحر لا يُمكن عبوره سباحة ولو حتى بالخيل.
ولأنَّ اليمن شرقي البحر الأحمر؛ لذلك لا يُمكن أن يكون موسى (عليه السلام) وفرعون في اليمن.
وحسب القرءان؛ مصر تقع بجانب الغربي للبحر الأحمر.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَنَادَىٰ فِرۡعَوۡنُ فِي قَوۡمِهِۦ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَيۡسَ لِي مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَٰرُ تَجۡرِي مِن تَحۡتِيٓۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ (٥١) ﴾ الزخرف.
مصر كانت بها أنهارًا تخرج من النهر الرئسي في تلك الفترة.
ولا يزال بها نهرين في الدلتا.
إنَّ قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (٤٤) ﴾ يحسم مكان الأحداث تمامًا: النبي ﷺ بجانب الشرقي من البحر الأحمر، لم يكن بجانب الغربي من البحر الأحمر؛ فكيف تكون مصر في اليمن؟!
من بلاغة البيان في القرءان يتبين لنا أنَّ فرعون لم يكن في اليمن؛ لأنَّها شرقي البحر الأحمر؛ ولكن كان في مصر؛ لأنَّها غربي البحر الأحمر.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ (٨٩) ﴾ النحل.
أي يُمكن أن نتبين ما جاء في القرءان من خلال القرءان؛ لأنَّ هذا كلام الله الذي أحكم ءاياته.
تمامًا مثل ما جاءت ءاية (واحدة) في القرءان؛ فأظهرت بدقة بالغة، وبيان مُعجز، وبشكل قاطع (تعجز الأبحاثُ التاريخيةُ على أن تأتي بمثله) أنَّ موسى (عليه السلام)، وفرعون كانت أحداثهما في مصر، في وادي النيل، غربي البحر الأحمر؛ قال الله ـ تعالى ـ : ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (٤٤) ﴾.
والله أعلم.