قال الله تعالى: ﴿ إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ
وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا (١٦٣) وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا (١٦٤) ﴾ النساء.
نتبيَّن من الآيتين
أنَّ الله تعالى لم يُكلم النبي (عليه الصلاة والسلام) تكليمًا؛ ولكن كان يُوحى إليه عن طريق ملك رسول.
لقد بيَّن القرءان الكريم من خلال دقة ألفاظه أنَّ الله لم يُكلم من البشر إلَّا موسى (عليه السلام) الذي كان يُوحى إليه من الله تعالى٠ دون ملك رسول.
وكيف يُمكن أن نستدل على ذلك من القرءان؟
الدليل هو لفظ: (كما) الذي جاء في الآية، وهو اللفظ الذي يدل على تطابق الأفعال (كما تبيَّن لنا من قبل).
هو ما دلَّ على أنَّ الله لم يُكلم أحدًا من النبيَّن تكليمًا إلَّا موسى (عليه السلام).
ولأن لفظ: (كما) يدل على التطابق بين الأفعال وليس التشابه؛ فإنَّ الآية الكريمة لم تذكر اسم سيدنا موسى مع النبيين، ولكن تم ذِكره (وحده) في الآية التي تلتها.
ألا يدل ذلك على دقة الألفاظ في القرءان، وبلاغة البيان؟
نعم، لأنَّ طريقة الوحي إلى سيدنا موسى اختلفت (أي لم تتطابق) مع طريقة الوحي إلى باقي النبيِّن، ومنهم النبي (عليه الصلاة والسلام).
ولو كلم اللهُ النبي تكليمًا؛ كان سيتم ذِكره في الآية التي ذَكرت موسى، وليس مع النبيِّن الذين أوحي إليهم عن طريق ملك رسول.
ذلك ما يتوافق مع ءايات القرءان الذي بيَّن لنا أنَّ سيدنا محمد أُوحي إليه عن طريق سيدنا جبريل، ولم تذكر الآيات أنَّ الله عز وجل كلمه تكليمًا.
هل لله تعالى صوت؟!
لنتدبر الآيتين لنتبين المعجزة البيانية البالغة في قول الحق حين وصف الوحي بلفظ: (كما) وليس بلفظ: (مثل ما):
﴿ إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ ﴾ وذَكر أسماء بعض النبيِّن ممن تطابقت طريقة الوحي إليهم مع طريقة الوحي إلى سيدنا محمد، وسيدنا نوح: ﴿ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ﴾.
ولأن كلام الله بالغ الدقة والكمال؛ ولأن الآية لم تذكر كل أسماء النبيِّن الذين أُوحي إليهم كما أوحي إلى سيدنا محمد، وسيدنا نوح عن طريق ملك رسول؛ جاء القول: ﴿ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ ﴾.
ثم خُتم قول الحق بذكر موسى (عليه السلام) وحده، في بلاغة بيانية مُعجزة ليس مثلها للبشر، من إله أحكم ءاياته، لا يضل ولا ينسي ﴿ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ﴾ النساء.
لو كانت دلالة (كما) تعني التشابه؛ فلماذا لم يتم ذِكر سيدنا موسى مع النبيِّن ومع سيدنا هارون، وتم ذِكره وحده؟!
لماذا لم يأتِ القول: (إنا أوحينا إليك مثل ما أوحينا إلى نوح والنبيِّن من بعده) وليس: (كما)؟!
بل ذلك دليل على أنَّ دلالة (كما) تعني تطابق الوحي إلى سيدنا محمد مع الوحي إلى سيدنا نوح، والنبيِّن باستثناء موسى (عليه السلام).
لكن هل الله تعالى كلم سيدنا موسى بصوته كما يظن البعض؟!
ليس لله صوت يخرج من نفسه؛ الصوت ليس من صفات الله، ولكن هو من خلقه.
الله تعالى أوحى إلى موسى بصوت مخلوق خرج من الشجرة؛ لأنهَّ ليس لله صوت.
فكيف وصل كلام الله عز وجل إلى سيدنا موسى؟
علينا أن نفرق بين: الكلام، وبين: الصوت والحروف؛ أي النطق الذي هو من وسائل القول.
لله كلام وذلك صفة للحق، ولأنه صفة لله؛ فهو كما كل صفات الله غير مخلوق.
لكن الصوت والحروف الذي نقل كلام الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) هو المخلوق لأن النطق (الصوت، والحروف) من القول المخلوق، وليس من كلام الله (ذاته) غير المخلوق.
كلام الله ليس مخلوقًا لأنه من صفاته التي ليس لها زمن، لكن النطق الذي ينقل الكلام بالصوت، والحروف هو المخلوق.
إذًا الصوت الذي سمعه موسى (عليه السلام) هو صوت (أي قول) مخلوق مثله، وليس جزءًا من نفس الله تعالى (لأنَّ الله تعالى ليس كمثله شئ).
كذلك الصوت ليس من صفات الله، ولا حتى من صفات البشر؛ فالصوت ليس كصفة: (الكرم) مثلًا (وقد بينت ذلك من قبل).
الكلام الذي أوحي إلى موسى هو كلام الله (غير مخلوق)؛ نقله قول (مخلوق)؛ وهو الصوت، والحروف الذي خرج من الشجرة.
ومن وسائل القول: النطق، الإشارة، الحروف المكتوبة على الصحف.
(وقد تم التفريق بين الكلام، والقول في موضوع سابق(.
كما أنَّ الحوار (حين كلم الله موسى تكليمًا) مر على موسى في زمن، والله تعالى لا يمر عليه زمن (وهو خالق الزمن).
كلام الله تعالى جاء سيدنا موسى في زمن؛ لأن موسى هو المخلوق يتلقى القول في زمن يمر عليه هو، وليس على الحق جل وعلا.
ما الدليل على أنَّ الصوت الذي سمعه موسى خلقه الله تعالى في الشجرة؟
لأنَّه خرج منها، والدليل هو قول الله تعالى: ﴿ فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ مِن شَٰطِيِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَيۡمَنِ فِي ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّيٓ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (٣٠) ﴾ القصص؛ النداء دليل على الصوت المسموع، ﴿ نُودِيَ مِن شَٰطِيِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَيۡمَنِ فِي ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَٰرَكَةِ مِنَ
ٱلشَّجَرَةِ ﴾ لاحظوا دقة البيان، الله يقول أنه نودي: من شاطئ الوادِ الأيمن؛ أي أنَّ النداء خرج من شاطئ الوادِ الأيمن (تحديد مكان النداء).
أين ذلك الوادِ؟
إنه في البقعة المباركة.
وما الذي في البقعة المباركة خرج من النداء؟
إنه خرج ﴿ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ ﴾ كما قال الحق: ﴿ نُودِيَ مِن شَٰطِيِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَيۡمَنِ فِي ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ ﴾.
إذًا النداء (الصوت، والحروف) خرج من الشجرة أي خلقه الله في الشجرة لينقل كلام الله سبحانه وتعالى إلى موسى (عليه السلام).
ذلك ما نتبينه من بلاغة القرءان الكريم، وليس من دونه.
ذلك برهان على خروج الصوت من الشجرة.
لكن البعض الآخر على النقيض تمامًا فأنكروا أنَّ الله تعالى كلم سيدنا موسى أصلًا؟!
وقالوا: هذا لم يحدث، ولكن كلمه رسول!
ما هو البرهان على أنَّ موسى سمع صوتًا خرج من الشجرة؟
لبس شرط أن يوخي الله عن طريق ملك رسول، ولكن يمكن أن يوحي للنفس مباشرة كما حدث مع سيدنا موسى.
فالله تعالى خلق صوتًا في الشجرة لينقل الوحي إلى موسى بدلًا من أن يُرسل إليه ملكًا رسولًا.
والبرهان على أنَّ الله تعالى خلق صوتًا سمعه سيدنا موسى؛ ما نتبينه من الآية الكريمة: ﴿ وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ (١٣) ﴾ طه؛ أي أنَّ موسى (عليه السلام) استقبل الصوت الذي خرج من الشجرة (حسب ما بينت لنا الآيات) عن طريق الأُذن (لأنَّ الوحي مسموع) حيث استقبله عن طريق أشياء مادية هي: موجات الصوت عبر الريح، ثم تستقبله مكونات الأذن، والفؤاد؛ كل ذلك مخلوقًا لله؛ مما يعني أنَّ الصوت الذي سمعه موسى، ونقلته الريح إلى أذنه كان مخلوقًا.
بينت من قبل أنَّ الصوت ليس من صفات الله تعالى؛ لأنَّ مكونات الصوت، والأذن التي تستقبله، والفؤاد الذي يُدركه؛ كلها مخلوقة من مكونات مادية؛ ومعنوية (مثل الإدراك).
وهذه المخلوقات لا يُمكن أن تُدرك الإله، أو صفاته ذاتها (فنحن نُدرك بإذن الله أثر الصفة، وليس ذاتها).
قال الله تعالى: ﴿ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (١٠٣) ﴾ الأنعام؛ فكيف يُدركه السمع المخلوق؟!
ومن يقول: إنَّ الله يتكلم حين يشاء، ويسكت حين يشاء؛ قد جعل لله تعالى ما لغيره من المخلوقات، ونسبوا له الزمن ليمر عليه كما يمر على المخلوقات!
فمن قالوا: إنَّ الله يتكلم حين يشاء، ويسكت حين يشاء؛ قد جعلوا لله تعالى زمنًا يتكلم فيه، وزمن يسكت فيه! تعالى الله عما يصفون.
الله لا يمر عليه زمن؛ لأنَّ الله هو خالق الزمن، وخالق كل شئ، لا يحتاج لزمن مثلنا لكي يعلم، أو يتكلم، ولا ينتظر (مثلنا) مرور الوقت لكي ينشأ الكلام في نفسه فيتكلم (بعد أن كان لا يتكلم كما يزعمون)!
إنَّ كلام الله لا يحتاج إلى الزمن لكي ينشأ في نفسه؛ لأنَّ كلام الله لا يُشبه كلام خلقه الذي يمر عليهم زمن لكي ينشأ في أنفسهم الكلام.
الله تعالى لا يحتاج مرور زمن لكي يعلم الغيب، أو ينتظر المستقبل لكي يحين الوقت الذي سيتكلم فيه بعد أن يمر عليه الزمن الذي يسكت فيه (حسب ظن البعض)!
وبالتالي
اللهُ لم ينتظر مرور زمن حتى يأتي وقت يُكلم فيه موسى تكليمًا (فالله لا يحويه زمان، ولا مكان).
ولكن موسى هو من مر عليه زمن؛ لأنَّه مخلوق.
كما أنَّ: وصف الله تعالى بأنَّه يتكلم حين يشاء، ويسكت حين يشاء! هو وصف ليس له دليل في القرءان، ولا يقبله عقل؛ بل هو وصف لا ينبغِ في حق الله تعالى الذي قال عن نفسه: ﴿ فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ (١١) ﴾ الشورى.
حيث بيَّن حرف: (الكاف) في قول الله تعالى: ﴿ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ ﴾ أنَّ المقارنة بين الله، وخلقه لا تجوز؛ لأنها ليست لها أساس لتقام عليه، ولا تنبغِ من الأصل.
الله أعلم.