في البداية قد يتداخل معنى اللطيف، ومعنى الرءوف.
الرأفة عكس المشقة؛ فهي تعني عدم تحميل الإنسان فوق طاقته، أو إعفائه من أمور قد تثقل عليه:
قال الله – تعالى – : ﴿ لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ (١٢٨) ﴾ التوبة.
رءوف: لا يشق عليهم، أو يحملهم فوق طاقتهم.
رءوف تعني التخفيف، مثل: تخفيف العذاب، ونجد ذلك في قول الله – تعالى – : ﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (٢) ﴾ النور؛ فالله –
سبحانه وتعالى – ينهاهم عن الرأفة بهما (التخفيف عنهما) لكي يكون ذلك رادعًا لهما، ولمن يُريد أن يرتكب هذه المعصية لخطورتها على المجتمع.
والآية التالية تبين الفرق بين: (لطيف، و رءوف) وذلك بذِكر ما هو ضد الرأفة:﴿ وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدٖ لَّمۡ تَكُونُواْ بَٰلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ إِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ (٧) ﴾ النخل.
فالرأفة ضد المشقة.
هل الرأفة تختلف عن الرحمة؟
نعم، حيث تكون الرحمة بعد ذنب.
لفظ: (اللطيف) تم ذِكره في كتاب الله كصفة من صفات الخالق – عز وجل ـ.
قول الله – تعالى – : ﴿ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (١٠٣) ﴾ الأنعام؛ نتبين منه أنَّ الله لا تُدركه الحواس؛ فليس لله صورة لكي تدركها الأبصار، وليس له صوتًا لكي نسمعه، وليس له ثقل، أو تأثير على الحواس؛ ذلك معنى ( اللطيف).
و من دقة الآية أنَّه جاء لفظ: ﴿ ٱلۡخَبِيرُ ﴾ الذي يعني أنَّه هو – سبحانه وتعالى – من يعلم، ويدرك، ويرى ما يَخفى عن الخلق.
وهذا بدوره؛ يرد الرواية الظنية التي نُسبت للنبي – عليه الصلاة والسلام – أنَّ لله أنامل، وضعها على كتف النبي فحس النبي بأنامل ربه! ـ تعالى ـ الله عما يصفون.
وحين نتبيَّن لفظ: (خبير) حين يأتي وصفًا للناس؛ نراه لا يُطلق إلَّا على المتخصص في مجال ما؛ كالخبير بصناعة السيارات، أو الخبير بالزراعة، أو الخبير بشئون الفلك، وعلم الفيزياء، وغير ذلك..
إنه يعني أنَّ ذلك الإنسان في مجاله؛ يعلم، ويرى ما لا يعلمه، أو يراه غيره من الناس من غير المتخصصين في ذات المجال.
أي يرى من بواطن الأشياء، وتفاصيلها ما لا يراها، أو يُدركها غيره من غير المتخصصين في مجال عمله.
كذلك نجد لفظ: (لطيف) يأتي لوصف الأمور، أو الأشياء التي يُخفيها الله عن الناس، والخلق لحكمة يعلمها الله – سبحانه وتعالى ـ.
ما هو المعنى الذي يمكن أن يُبينه لفظ: (لطيف) حين يأتي مع الرزق؟
قال الله – تعالى – : ﴿ ٱللَّهُ لَطِيفُۢ بِعِبَادِهِۦ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ (١٩) ﴾ الشورى؛ معناه: أنَّ الله – تعالى – أخفى (لحكمة يعلمها هو ـ سبحانه وتعالى ـ ) أسباب الرزق عن الناس؛ فلا ندري؛ لماذا هذا غني، وهذا فقير، أو لماذا هذا رُزق الصحة، وهذا رُزق الأولاد، وغير ذلك من الأشياء التي لا نعلم، أو نُدرك أسبابها.
ذلك مما لطف به الله بعباده لئلا تتأثر حياتهم.
فقد لا يُرزق المؤمن بمال كثير؛ فربما كثرة المال كانت ستفسده، أو تُفسد من ذريته؛ فيكون حسرة عليه.
نحن بعلمنا المحدود لا ندري أين الخير لنا فيما أُخفيَ عنَّا.
ولنا عبرة في قول الله – تعالى – : ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ
وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ (١٠٠) ﴾ يوسف.
إنَّ الآية تتحدث عن أمور غيبية، نأخذ منها العبرة..
ما المراد من قول سيدنا يوسف: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ ﴾؟
لقد أشار إلى العبرة وهي: لماذا أُخفيت أسباب كل ماحدث، لماذا ألقاه إخوته في الجب، ولماذا دخل السجن، ولماذا حدثت مجاعة.. أسباب تلك الأحداث، والحكمة منها لم يتم إدراكها وقت حدوثها.
ذلك نتعلم منه أنَّ كل ما يحدث له حكمة لا نعلمها.
فقول سيدنا يوسف يُبين لنا أنَّ يوسف وأبيه – عليهما السلام – وإخوته؛ لم يُدركوا بحواسهم الكثير من الأمور التي حدثت، والتي كانت ستحدث لهم في المستقبل، وما الحكمة منها.
مثلًا: سيدنا يوسف لم يُدرك حقيقة رؤيته التي قصها على أبيه في حينها؛ وكذلك لم يُدرك ما سيفعله إخوته به.
وبمرور السنين توالت الأحداث: إخوته ألقَوه في الجب، التقطه بعض السيارة، باعوه إلى عزيز مصر؛ أُدخل السجن، بعد ذلك خرج ليصير عزيز مصر. وتستمر الأحداث دون علم بأسباب حدوثها؛ حدثت مجاعة فأتى على أثرها إخوته إلى مصر، وهم لا يُدركون هل أخيهم لا يزال حيًا، أم ميتًا.
لم يخطر على بالهم أنهم سيلتقون به، وحين قابلهم؛ لم يظنوا أنَّه هو عزيز مصر.
كل ذلك من الأمور التي أُخفيت عنهم أجمعين؛ لحكمة يعلمها الله؛ لذلك قال يوسف – عليه السلام – : ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ ﴾ .
جميعهم لم يُدركوا بحواسهم حقيقة الأحداث التي كانت تمر بهم، وما الحكمةَ منها.
قال الله – تعالى – : ﴿ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ (٦٣) ﴾ الحج.
كل شئ عند الله بقدر، وله حكمة؛ قد لا يُدركها كثير من الناس.
لفظ: ﴿ لَطِيفٌ ﴾ جاء ليُعطي المعنى التالي: الله – عالم الغيب – يجعل كثيرًا من الأمور غير ظاهرة للناس؛ لحكمة يعلمها وحده حتى يُطلع عليها بعض خلقه.
قال الله – تعالى – : ﴿ يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ (١٦) ﴾ لقمان؛ الله لطيف لأنَّه – سبحانه وتعالى – لا تُدركه الحواس؛ و هو خبير بكل شئ.
قال الله – تعالى – : ﴿ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (٣٤) ﴾ الأحزاب.
قول الله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ جاء متوافقًا مع ما يتم ذِكره في بيوتهن (من كتاب الله والحكمة) ولا يعلمه الناس.
لكن الله الذي لا تدركه الحواس خبير بما يقوله نساءُ النبي – عليهن السلام – لذلك أمرهن الله بذِكره، دون تغيير.
قال الله – تعالى – : ﴿ وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (١٣) أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (١٤) ﴾ الملك.
نلاحظ أن قول الله – عز وجل – : ﴿ أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ﴾ جاء مع القول الذي قد يُخفيه الناسُ لكي لا يعلم به أحد، والله يذكرهم بقوله: ﴿ أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ﴾.
الله لا تدركه الحواس، ولكن لتعلموا أنه معكم، خبير بما تقولون سرًا، أو جهرًا.
قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (١٠٣) ﴾ الأنعام؛ من الآيات التي تُبيِّن معنى: (اللطيف).
إنَّ لفظ: ﴿ ٱللَّطِيفُ ﴾ جاء متوافقًا مع قوله – سبحانه وتعالى – : ﴿ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ ﴾ .
والمراد الذي نستنبطه هو: ﴿ ٱللَّطِيفُ ﴾ أي الذي لا تُدركه الأبصار، أو غيرها من الحواس.
قال الله – تعالى – : ﴿ وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا
لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا (١٩) ﴾ الكهف.
هذه الآية لا تحتمل معنى ءاخر للفظ: ﴿ اللطيف ﴾ إلَّا ما تبيناه من قبل..
معنى: ﴿ وليتلطف ﴾ أي لا يُحدث شيئًا قد يُؤثر على حواسِّ الناس فيكتشفوا الأمر الذي يُخفيه عنهم.
﴿ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ﴾ .
ولكن ما هو المعنى الذي يمكن أن نستنبطه من قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ﴾؟
بعد أن بيَّن لفظ: ﴿ وليتلطف ﴾ الجانب الحسي؛ فإنَّ قول الله: ﴿ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ﴾ بيَّن الجانب غير الحسي؛ أي الذي لا يُدرك بالحواس؛ وهو الشعور بأمرهم.
كيف يمكن إدراكهم بالشعور؟
باقي أصحاب الكهف؛ لن يخرجوا من الكهف لكي لا يراهم الناس؛ ولأنَّهم لن يخرجوا أمام الناس؛ فإنَّ هذا يعني التالي:
لن يُؤثروا على حواسِّ الناس؛ بمعنى: لن يُدركهم الناس بحاسة البصر؛ لأنَّهم لن يخرجوا من الكهف أصلًا، ولن يُدركوهم بحاسة السمع؛ لأنهم لن يصدروا صوتًا لأنهم لن يخرجوا من الكهف.
لذلك لن يتم إدراكهم بحاسة السمع، ولن يُؤثروا على حواسّ الإنسان الأخرى.
إذًا يستحيل إدراكهم بالحواس.
ولكن يبقى أن يشعروا بوجودهم؛ كيف ذلك؟
من ذهب ليتخير الطعام؛ قد يُحدث شيئًا يجعل الناس يرتابون في أمره، وقد يجعلهم ذلك يشعرون بوجود أصحابه في الكهف.
وفي النهاية:
لفظ: (اللطيف) يعني الذي لا تُدركه الحواس: البصر، السمع، الجلود..
ويعني كذلك الشئ الذي يُخفيه الله – تعالى – عن الناس لحكمة يعلمها ـ سبحانه وتعالى ـ .
والله أعلم.