في البداية ما هو المقصود بالتأويل البشر؟
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا (٥٩) ﴾ النساء.
إنَّ رأي الناس وحُكمهم على شئ في أمور حياتهم هو: تأويل بشري. والتأويل البشري دائمًا يكون نسبيًا وليس قاطعًا.
لذلك فالتأويل البشري في الأمور الحياتية النسبية لا يُصيب الحق بدرجة كاملة.
الأمر الذي يُؤدي في بعض الأوقات إلى حدوث نزاع بين الناس حول شئ ما.
ولتجنب الظلم في حال التنازع على شئ ما؛ أمرهم اللهُ أن يردوه إلى الله، والرسول.
لماذا؟
ليأتيهم تأويل أحسن مما يأتون به.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥) ﴾ الإسراء.
تُبين لنا الآية الكريمة بدقة بالغة المراد بالتأويل البشري.
وماذا نستنبط من الآية؟
أنَّ التأويل البشري لا يكون في أمور الدين، أو كلام الله؛ لأنَّ الناس لا يُحيطون بالدين، أو بكلام الله علمًا، ولا يعلمون الغيب، ولا يأتيهم علم تأويل المتشابه من القرءان من عند الله.
وقد فرقنا من قبل بين: التأويل من جهة، وبين البيان والتفسير من جهة أخرى..
وأثبتنا أنَّ التأويل ليس هو بيان المتشابه من القرءان، وليس هو التفسير.
وبالعودة إلى التأويل البشري
إنَّ اللهُ يُعَلمُنا كيف نتبادل السلع دون ظلم حتى عن طريق المال المقابل السلعة.
فالإنسان حين يشتري سلعة فإنَّ التاجر يُؤول ثمنها بقيمة مقابلة من المال؛ أي يُعادل ثمنها بمقابل من المال.
ذلك تأويل بشري حَوَّلَ قيمة السلعة إلى قيمة مالية معادلة لها، مثل أن تتحول قيمة الهاتف إلى عملة نقدية، أو ذهب.
لذلك يُؤول الناس في أمور حياتهم النسبية فقط، ولا يُمكنهم أن يُؤولوا معاني الآيات في القرءان الكريم.
وحين نقوم بتأويل الأشياء المادية كالسلع، ولنصل إلى أحسن تأويل؛ علينا أن نلتزم بشرع الله – تعالى – لنتبين الحكم الصائب في تأويلنا (قدر المستطاع).
ما سبق هو دليل على عدم جواز تأويل البشر لأمور الدين، والمُتشابه من القرءان.
لماذا؟
لأنَّ الدين ومنه تأويل القرءان لا يحتمل النسبية؛ بل لا بد أن يكون بيِّن وقاطع، وهذا لله وحده ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧) ﴾ آل عمران
وحين نسعى لتبين الفرق بين: البيان، والتفسير، والتأويل، نجد أنَّ بعض عُلماء اللسان العربي ربطوا بين التفسير، والتأويل حين اعتبروهما بمعنى واحد.
(ولكنهم لم يذكروا لفظ البيان كثيرًا) وعن لفظ: (التفسير) بعضهم قال: إنَّ التفسير هو المعنى، بينما التأويل هو الوصول إلى معنى مجازي؟!
وأنا لا أجد دليلًا على ذلك من القرءان.
لأن كل ما في القرءان هو: حق؛ يُنبئ عن حق، ويُبين لنا سبيل الحق.
فالقرءان يتكلم عن الله – تعالى – وعن ملائكته، وكتبه، ورسله، وشرعه، وحدوده، واليوم الآخر..فلا بد أن يكون كله حقًا لا مجاز فيه.
ولكن قد يخلط البعض بين المجاز، والأمثال التي يضربها اللهُ لنا في القرءان!
لذلك علينا أن نفرق بين المجاز الذي يُعطي معاني مجازية، وهذا ليس في كلام الله، وبين الأمثال التي تُقرب لنا فهم مراد الله – تعالى – من الآيات.
بمعنى: حين يضرب اللهُ للناس الأمثال في القرءان الكريم؛ فإن اللهَ لا يُريد بها معاني مجازية، ولكن تقريب فهم المراد الحق من كلامه – سبحانه وتعالى -.
وعن (التفسير، والتأويل) اختلف علماء البيان، والتفسير حول اللفظين.
فمنهم من لم يُفرق بين اللفظين بشكل كامل، مثل: الطبري الذي كان يقول حين يتبين الآيات (أي يُفسير الآيات حسب ما هو دارج): وتأويل قوله – تعالى – فذهب بذلك إلى ما ذهبَ إليه عُلماء اللسان العربي حين ظنوا أنَّ التفسير هو التأويل.
حين يتم الخلط بين الألفاظ: (البيان، التفسير، التأويل) ولا يتم التفريق المحكم بينها؛ يظهر المبطلون الذين لم يقفوا بعيدًا، ولم ينتظروا كثيرًا؛ ليخضوا بالباطل.
حيث نراهم يقولون: إنَّ القرءان يتعارض بعضه مع بعض؛ ذلك حين أشاروا إلى الآيات المُتشابهة في القرءان، وقالوا: كيف يقول اللهُ عن القرءان: إنَّه كلام بيِّن، وفى ذات الوقت يقول: (لا يعلم تأويله إلَّا اللهُ)؟!
لقد حدث ذلك الخلط في المراد حين خلطوا بين البيان، والتفسير من جهة، وبين التأويل من جهة أخرى؛ فظنوا أنَّ التأويل هو التفسير، لا فرق بينهما!
في حين أنهم إذا تدبروا القرءان سيتبين لهم أنَّ كل لفظ له معناه الخاص به؛ وأنَّ القرءان لا اختلاف فيه.
متى يُمكنهم أن يتبينوا ذلك؟
حين يدركون أنَّ لكل لفظ في القرءان دلالة خاصة به، لا تكون لغيره من الألفاظ الأخرى، ولو تشابهت الألفاظ، أو الدلالات.
وحين نتيقن من ذلك؛ سيتبين لنا: كيف أنَّ كل لفظ في القرءان أتى في موضعه بدقة بالغة.
فحين نتدبر الآيات لنستنبط منها المراد من ألفاظ: (البيان، والتفسير، والتأويل) سنرى أنَّ تدبر الآيات هو الحق الذي يُمكننا أن نستنبط به المراد من كل لفظ بدقة بالغة، وليس ما هو دارج بين الناس كقولهم: التأويل هو التفسير!
إذا تدبرنا القرءان لنستنبط معاني الألفاظ كما جاءت في كتاب الله؛ سيتبين لنا أنَّ التفسير لا يعني التأويل؛ لأنَّه سيتبين لنا أنَّ التأويل هو تحويل المعنى الظاهر إلى معنى باطن لم تذكره الآيات أبدًا لا يعلمه إلَّا الله وحده.
هذا مما ذَكرته في موضوع سابق..
والآن ما المراد من قو الله – تعالي – : ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣) ﴾ الفرقان؟
يتبن من لفظ (تفسيرًا) الذي تم ذِكره في الآية؛ أنَّ تفسير الله أحسن: بلاغة، وبيانًا، وكمالًا، للمعانى الكلية في الآيات القرءانية.
فبجانب أنَّه القول الحق، فهو أحسن: بلاغة، وبيانًا، وتفسيرًا من أمثلتهم التي ضربوها للرسول – عليه الصلاة والسلام – حين أرادوا بأمثلتهم أن يُضلوه عن سبيل الحق.
وهذا بدوره يصل بنا إلى معنى التفسير: إنَّه استنباط المعاني كما هي دون زيادة، أو نقصان، ودون أهواء، أو أن يزعم أحد أنه يعلم تأويل المتشابه من القرءان.
لماذا ننكر أنَّ البشر يُمكنهم تأويل المتشابه من القرءان؟
لأن التأويل يُخرج المراد البيِّن عن معناه الحق إلى ءاخر باطن لا دليل على صحته.
أما التفسير فهو تفسير الظواهر الطبيعية، مثل: تفسير ظاهرة تكون السحب، ونزول الماء، والجاذبية، ودوران الأرض حول محورها، وتتابع الليل والنهار.
وكذلك تفسير الآيات التي فيها أحداث، مثل: ما حدث للبحر حين انفلق أمام سيدنا موسى؛ ذلك من خلال تدبر القول، وتخيل ما حدث للبحر حين انفلق.
فحين نتدبر القول، ونفسر ما حدث للبحر من خلال أن نتخيل ما حدث للماء؛ سنتمكن بإذن الله من استنباط معنى: (الطود)..وقد ذَكرته دلالته التي تختلف عن دلالة الجبل من قبل في موضوع سابق.
كذلك حين نتدبر القرءان سنتبين أنَّ التفسير درجات بدليل قوله – تعالى – :﴿ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾.
ذلك من دقة البيان في القرءان؛ لأن التفسير يختلف نسبيًا وفقا لدرجة اسنباط كل إنسان للمعنى الحق.
بل إنَّ التفسير قد يختلف (ولو نسبيًا) لدى الإنسان نفسه من حالة لأخرى.
أما تأويل المتشابه من القرءان؛ فهو ليس إلَّا شئ واحد لا درجات فيه، أو نسبية.
لماذا لا يختلف تأويل المتشابه من القرءان (ولو شيئًا يسيرًا)؟
لأن تأويل المتشابه من القرءان سيأتي من عند الله – تعالى – وحده، وعلم الله لا يختلف ولو اختلافًا يسيرًا (فلا نسبية في علم الله)
فلا نجد في القرءان الكريم لفظ: (أحسن تأويلًا).
إنما الاختلاف، والدرجات، والنسبية في التأويل هي للبشر، ولكن ليس فيما يخص تأويل المتشابه من القرءان؛ فذلك لله وحده.
إنما تأويل البشر يكون فقط في أمور حياتهم (النسبية) أو في حال النزاع على شئ من أمور الحياة.
ويكون تأويلهم غير كامل (نسبي) وربما يكون خاطئ في بعض الأوقات. لذلك قد يحدث نزاع بينهم دليلًا على أنهم لم يتفقوا في تأويلهم.
فكان رده إلى الله، ورسوله الذي يتلقى العلم من الله – تعالى – هو أحسن تأويلًا هذا في النزاع الذي ينشأ في أمور الحياة بين الناس، وليس في أمور الدين؛ أو تأويل المتشابه من القرءان.
في النهاية
إنَّ تأويل المتشابه من القرءان يُخرج الآيات عن مرادها الحق.
لأنه لا نسبية في التأويل؛ بل تأويل المتشابه من القرءان لا يكون إلَّا قاطعًا لا يختلف الناس فيه؛ لذلك لا ينبغي أن يكون تأويل المتشابه من القرءان بشريًا يخضع للمتغيرات، والحسابات.
فالدين، وعلم الغيب من عند الله وهو قول بيِّن ثابت يُعبر عن مراد الله وإرادته؛ لذلك لا نسبية في تأويل المتشابه من القرءان.
وقد يُؤتي اللهُ علم تأويل لحدث ما، مثل ما حدث مع سيدنا يوسف، والعبد الصالح.
كان تأويل سيدنا يوسف للرؤى، وتأويل العبد الصالح للأحداث علمًا جاءهما من عند الله، ولم يكن اجتهادًا من نفس سيدنا يوسف، أو العبد الصالح.
إنَّ المتشابه من القرءان؛ سيأتي تأويله يوم القيامة من عند الله – تعالى – ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) ﴾ الأعراف.
ولأن التأويل علم من عند الله، لا يكون بالرأي؛ لأنَّه لا نسبية فيه.
أما البيان، والتفسير؛ لأن كليهما من اجتهاد البشر؛ فإن في قول البشر نسبية، واختلاف (ولو كان اختلافًا يسيرًا).
ولنستنبط المراد الحق من خلال البيان، والتفسير؛ علينا بالتمسك بما في القرءان من دقة الألفاظ دون أن نُغير دلالاتها التي نستنبطها من القرءان؛ لأن لكل لفظ دلالة ثابتة لا تتغير في الآيات الكريمة.
كلما تمسكنا بذلك كلما ابتعدنا عن القول بالرأي، واقتربنا من المراد الحق من الآيات، وذلك من شأنه أن يقلل الاختلاف بين الناس حول المراد من ءايات القرءان الكريم.
أما التأويل النسبي فإن الناس يستخدموه في أمور الحياة النسبية.
وفي حال تنازعوا في شئ يردوه إلى الله، ورسوله ليصلوا إلى أحسن تأويلًا.
والله أعلم