الفرق بين: (الكتاب، القرءان، الذِكر)، (الجزء الخامس).

معنى لفظ: (الذِكر).

قال الله – تعالى – : ﴿ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ من الآية (٢٤) الكهف.

الذِكر هو: وجود دلالة الكلم، الكلمة، الكلمات، الكلام في الوعي الإنساني داخل الفؤاد؛ أي وقت إدراك تلك الدلالة.

والذِكر ضده النسيان، سواء كان النسيان متعمدًا (من التجاهل) أو كان النسيان لا إرادي، أو اعتادت عليه النفس، أو انشرحت به صدرًا..

قال الله – تعالى – : ﴿ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا (١٨) ﴾ الفرقان.

فالذِكر ليس مثل ما قال البعض: إنَّه الصيغة الصوتية المنطوقة للمصحف.

بل الذِكر هو: الدلالة التي نتذكرها، وليس المنطوق الذي هو وسيلة من وسائل القول.

لماذا ليس هو الصيغة الصوتية؟

لأن الصوت هو شئ مادي مسموع؛ ينتقل من خلال موجات الجو إلى الأذن، وبالتالي: الصوت هو وسيلة تنقل الكلام للفؤاد.

وحين نتذكر الصيغة الصوتية للفظ مثلًا؛ فهذا هو: تذكر نطق الَّفظ (مسموعًا) فقط، وليس تذكر دلالة الكلم الذي هو الذِكر، الذي ينقله ذلك الصوت.

الذِكر كما نستنبط دلالته من القرءان هو: حالة إدراك في الفؤاد لدلالة الكلم، والمراد الكلي الذي يتحقق باستنباط دلالات الكلام في الآيات؛ سواء جاءنا الكلام بالقول المسموع، أو بالقول غير المسموع، مثل: القراءة دون صوت.

كل ذلك سواء كان قول منطوق، أو غير منطوق سيتحقق به الذِكر في الفؤاد؛ حين يتم إدراك القول، واستنباط دلالة كل كلم.

وبالتالي: فإنَّ الذِكر دائمًا يأتي بعد فقه القول؛ وليس قبله، ولا يعني أنه الصيغة الصوتية المنطوقة للفظ أبدًا. ومن الأدلة على ذلك: أنَّ الإنسان لا يقرأ ءايات القرءان الكريم نطقًا فقط؛ بل يمكن أن يتحقق الذِكر بقراءة الآيات دون الجهر من القول.

ما هي أشكال الذكر في القرءان الكريم؟

قال الله – تعالى – : ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (٩٠) ﴾ النحل؛ الذِكر هو أن يتذكر الإنسان شيئًا جاءه.

﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ (١٠) ﴾ الأعلي؛ لا تعني الصيغة الصوتية المنطوقة، ولكن التذكر حين يتم استنباط المراد من كلام الله (فقه القول).

قال الله – تعالى – : ﴿ فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ (٣٤) يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (٣٥) ﴾ النازعات؛ فالمراد ليس الصيغة الصوتية المنطوقة، ولكن هو أنَّ الإنسان سيتذكر يوم الحساب؛ عمله الذي كان في الحياة الدنيا.

وهنا يعني تذكر أشياء سابقة..

قال الله – تعالى – : ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٤) ﴾ السجدة؛ فهم يعلمون هذا من قبل، والله يذكرهم به.

قال الله – تعالى – : ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ (١٦٥) ﴾ الأعراف؛ نسوا المراد من ءايات الله التي وعوها من قبل متعمدين، ومتجاهلين لما في تلك الآيات من حق.

لفظ: (نسوا) معناه أنهم لم يهتموا متعمدين بما ذُكِّروا به، وخالفوه متعمدين.. النسيان هنا ليس من النسيان اللا إرادي الذي لا يحاسب صاحبه.

﴿ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعۡرَضَ عَنۡهَآۚ إِنَّا مِنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (٢٢) ﴾ السجدة؛ الذِكر يتحقق بالآيات بما تحويه من دلالات.

﴿ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) ﴾ النحل؛ المراد بها كل ما يُرسله الله – عز وجل – من بيان إلى الرسول ﷺ أي دلالات كلام الله، ومراده من الآيات؛ أُنزلت إلى الرسول ﷺ؛ فإذا سُئلَ عنها النبي ﷺ؛ يتمكن من إعطائهم الإجابة الصحيحة التي تتوافق مع كتاب الله؛ فيكون جوابه قاطعًا، وكذلك ليس مُتأخرًا.

قال الله – تعالى – : ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكۡرَ وَخَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِۖ فَبَشِّرۡهُ بِمَغۡفِرَةٖ وَأَجۡرٖ كَرِيمٍ (١١) ﴾ يس؛ لا تعني من اتبع الصيغة الصوتية المنطوقة للمصحف!

ولكن من اتبع ما تُذَكِرُه به الآيات.

قال الله – تعالى – : ﴿ وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ (٥١) ﴾ القلم؛ لا يراد بها: لمَّا سمعوا الصيغة الصوتية المنطوقة، ولكن سمعوا كلام الله الذي يُذكَّرهم بعبادة الله وحده، وأنباء من سبقوهم، وأنباء يوم القيامة، والجزاء..

﴿ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ (٢) ﴾ الأنبياء؛ يذَكرهم بأحداث ليأخذوا منها العبرة، والموعظة.

(محدث؛ أي مخلوق).

قال الله ـ سبحانه وتعالى – : ﴿ نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَقُولُونَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِجَبَّارٖۖ فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥) ﴾ ق؛ لا تعني ذِكره بالصيغة الصوتية المنطوقة للمصحف، ولكن بكلام الله الَّذي يُقرأ، ويتحقق به الذِكر.

قال الله – تعالى – : ﴿ فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ (١٥٢) ﴾ البقرة؛ هذه الآية الكريمة بيِّنة؛ فالذِكر لا يعني الصيغة الصوتية،

ولكن هو ما نتبينه بعد فقه قول الله – تعالى -.

﴿ فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ ﴾ من الآية (٢٠٠) البقرة.

قال الله – تعالى – : ﴿ لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (١٠) ﴾ الأنبياء.

ظنوا أنَّ المراد بها هو: أنزلنا القرءان منطوقًا بلسانكم، وهذا شرف للعرب!

ولكن ذلك الاستنباط غير صائب..

الله – تعالى – لا يحكم على الأمور بمثل ما يظنون؛ فالله لا يفرق بين الناس مثل ما هو الأمر بين البشر.

إنَّما المعنى المراد هو: القرءان يحوي ذِكركم.

كيف ذلك؟

لأن القرءان ذَكر لهم أحداثًا تمت بينهم، هم يعلموها، وأحداثًا جاءت بعد ما أنبأهم الله بها ﴿ لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (١٠) ﴾.

القرءان ذَكر أحداثًا مر بها قوم النبي ﷺ وأصحابه..

قال الله – تعالى – : ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ (٤٢) ﴾ يوسف؛ يذكر أمام ربه (الملك) ما قاله سيدنا يوسف له بشأن سجنه ظلمًا.

الذكر هنا من تذكر قول سابق ليصبح في وعي ذلك الإنسان حين يكون مع الملك.

﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمۡ أُجُورَهُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (٥٧) ذَٰلِكَ نَتۡلُوهُ عَلَيۡكَ مِنَ ٱلۡأٓيَٰتِ وَٱلذِّكۡرِ ٱلۡحَكِيمِ (٥٨) ﴾ آل عمران.

الذِكر مرتبط بالآيات، ومُتحقق بها؛ فلا ذِكر دون ءايات تُقرأ، أو تتلى.

والتلاوة تعني: الآيات التي تتحدث عن شئ واحد؛ وهنا الآيات تتحدث عن شئ واحد وهو: (الجزاء).

(التفريق بين: القراءة، والتلاوة، والترتيل؛ تم نشره في موضوع ءاخر).

قال الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ (١) ﴾ ص.

هذه الآية أراها قاطعةً في إثبات أنَّ الذِكر لا يعني الصيغة الصوتية المنطوقة للمصحف؛ ولا يعني أنَّ القرءان مُصاحب للذِكر.

لماذا؟

أولًا: دلالة كلمة: ﴿ ذِي ٱلذِّكۡرِ ﴾ ليست هي دلالة كلمة: (صاحب الذِكر) كما أنَّ الله – عز وجل – لم يقل: (والقرءان صاحب الذكر).

لأنَّ القرءان لو كان مُصاحب للذِكر؛ فهذا يعني أنَّ القرءان، والذِكر يكونان منفصلين، وفي توقيت واحد!

بينما الذِكر يتحقق بعد فقه القول؛ أي بعد قراءة القرءان.

فيستنبط الفؤاد دلالات الكلام، ومراد الآية؛ فيُفقه القول، ويتحقق بذلك الذِكر.

إذًا قول الله – تعالى – : ﴿ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ﴾ يُبين لنا أنَّ الذِكر يتحقق بالقرءان؛ لأن القرءان هو سبب نشأة الذِكر في الفؤاد.

أي لا بد أن تصير ءايات الله المكتوبة لآيات مقروءة (قرءان) ليتحقق الذِكر.

نحن هنا نتكلم عن دلالات الكلام، وليس كما يقولون: الصيغة الصوتية المنطوقة.

لماذا؟

لأن القرءان سبق الذِكر، وهذا لا ينطبق على الصيغة الصوتية المنطوقة لأنها هي من تنقل الكلام، هي القول، وليست الذِكر.

النطق لا شك انه يسبق حدوث الذِكر الذي يلي قراءة القرءان وينشأ منه.

وبشكل أكثر تفصيلًا:

لأن النطق من القول الذي ينقل إلينا كلام الله؛ فكيف يكون هو الذِكر ذاته؟!

وبالتالي: النطق (الذي هو من وسائل القول) يسبق استنباط دلالات كلام الله؛ لأن وسائل القول هي التي تنقل كلام الله للفؤاد قبل أن يتم استنباط دلالاته.

واستنباط دلالات كلام الله يسبق فقه القول؛ وفقه القول يَسبقُ الذِكر؛ أي أنَّ الذِكر هو ءاخر مرحلة تتم في الفؤاد.

والله أعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart