من حكمة الله في المُتشابه من القرءان: أنَّه يُعلم منه إيمان الإنسان فالإنسان الذي يؤمن بالله، وأنَّ القرءان كلامه؛ لا ينتظر دليلًا على صدق كل ءاية.
ولكن عليه أن يتدبر ظاهر الآيات دون أن يُغير من ألفاظها؛ ليستنبط المراد منها إن شاءالله.
قال اللهُ – تعالى – :
﴿ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (٧)
رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ (٨) ﴾ آل عمران. اللهُ – عز وجل – قسم كتابه إلى ءايات مُحكمات هنَّ أم الكتاب، وأخر مُتشابهات.
يتساءل بعض الناس: ما هي الحكمة من وجود الآيات المتشابهة في القرءان إذا لم يتم تأويلها؟!
متى يتم طرح هذا السؤال؟
إذا لم يفرقوا بين معنى التبين، ومعنى التأويل.
عند ذلك ينشأ الظن فيقول صاحبه: إنَّ عدم علم (الراسخون في العلم) بتأويل المتشابه من القرءان، هو ذاته عدم معرفتهم بتبينه، واستنباط المراد منه!
هذا الظن غير صائب؛ لأنه يتم استنباط المراد من المتشابه في القرءان مع الوقت عن طريق التدبر كالفقه، والتفكر، لاستنباط دلالات الألفاظ الظاهرة دون تحريفها عن معانيها الحقيقية البينة التي أتت في الآيات؛ أي التي تدل عليها تلك الألفاظ دون رأي (فإذا تم القول في القرءان بالرأي؛ اختلف الناس فيه).
المُتشابه من القرءان لا يجوز تأويله؛ وهذا لا يعني أنَّه لا يتم استنباط المراد منه.
ومن قال: إنَّ استنباط المراد من الآيات (تفسيره) هو ذاته التأويل؛ أحدث اشكالية لا يمكن الخروج منها إلَّا بالعودة إلى الحق الذي بينه اللهُ في كتابه.
ولكي نفقه بشكل صائب معنى أنَّ الله وحده يعلم تأويل القرءان، وأنَّ (الراسخون في العلم) لا يعلمون تأويل المتشابه من القرءان؛ علينا في البداية أنَّ نفرق بين البيان، والتأويل من حيث الدلالة الخاصة بكل لفظ منهما وفقًا لقاعدة: لا ترادف بين الألفاظ المختلفة في القرءان ولو بدا أنَّ الدلالة واحدة.
فمادام أنَّ لفظي: البيان (الذي يُطلق عليه التفسير) والتأويل كلاهما جاء في كتاب الله؛ إذًا كل لفظ منهما له دلالة خاصة به تختلف عن دلالة اللفظ الآخر؛ فلا ينبغي الخلط بينها (بأي حال من الأحوال)؛ لأنَّ دقة الألفاظ في القرءان تقتضي التفريق بين اللفظين من حيث الدلالة؛ لنتبين مراد الله من الآية.
(الفرق بين البيان، والتأويل موجود على الموقع بالتفصيل).
ما هو معنى (التفسير) في القرءان؟
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا (٣٢) وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا (٣٣) ﴾ الفرقان.
التفسير هو ما يكونَهُ الإنسانُ من رأي وفقًا لِمَا أمامه من ظواهر طبيعية، أو حدث تنقله الآيات.
إذًا التفسير خاص بوصف الظواهر الطبيعية كتفسير سبب تكون السحب، ونزول الماء، وتكون الجليد، وأسباب الأمراض..
أمام ءايات القرءان فهي تحتاج لتبين واستنباط وهناك ءايات تحتاج كذلك لتفسير ، مثل: الآيات التي تُحدثنا عن خلق السموات والأرض، أو الآية الكريمة التي حدثتنا عن انفلاق البحر أمام موسى – عليه السلام -.
وحين نتبين ءايات القرءان المتشابهة لاستنباط المراد منها؛ لا ينبغي لمن يتدبر القرءان أن يأتي برأي من نفسه؛ رأي لا تدل عليه الآيات.
فعلى من يتدبر القرءان أن يلتزم بالألفاظ التي أتت في الآيات، ولا يُغيرها بألفاظ أخرى لم تأتِ في الآيات.
لماذا؟
لأنه لو استبدل الألفاظ التي في الآية سيُغير المراد الحق؛ لأن الله يضع كل لفظ في موضعه؛ فلا يُمكن استبداله بلفظ ءاخر.
تدبر القرءان يعني أن يجتهد الإنسان لاستنباط الدلائل الحقيقية للألفاظ التي أمامه؛ حتى يصل إن شاءالله إلى مراد الله – تعالى – من الآيات.
إذًا (المراد الحق) نتبينه بعد تدبر الآيات من خلال استنباط دلالة كل لفظ فيها؛ على ظاهرها (كما هي) ولا نخلط بينها، وبين دلالات ألفاظ أخرى، مثل: قول الله – تعالى – : ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾ من الآية (١٩٦) البقرة.
قالوا بيانها: (أي تلك عشرة فاضلة) فتم استبدال كاملة بفاضلة.
لكن ذلك الرأي يحول دون تبيُّن البلاغة البيانية للآية، ودقة لفظ (كاملة) الذي بدونه تفقد الآية بلاغتها البيانية، والتشريعية.
إنَّ استبدال لفظ: (كاملة) بلفظ: (فاضلة) أدى إلى تأويل الآية، وليس تبيانها؛ فأخرجها عن مرادها الذي أراده اللهُ – تعالى – دون قصد.
كلا اللفظين (فاضلة، كاملة) مُختلف.
لذلك فإن تغيير اللفظ الذي جاء في الآية بلفظ ءاخر لتبين مرادها؛ غير المراد الحق، وحال دون أن يستنبطوا المُعجزة البيانية التي جاءت في الآية الكريمة.
(وقد بينا تلك المُعجزة في موضوع ءاخر).
وبقول موجز
(كاملة، فاضلة) من الألفاظ التي أتت في القرءان؛ إذًا كل لفظ منهما له دلالة مختلفة عن دلالة اللفظ الآخر.
ومن هنا؛ فأنَّ القول: (كاملة أي فاضلة)؛ هو تغيير لدلالة لفظ (كاملة).
لماذا؟
لأن فاضلة لها دلالة خاصة بها؛ فهي من الفضل والعطاء.
ولكن هذا ليس مراد الآية الكريمة.
ولأن المراد تغير عن مراد الله من الآية؛فإننا نصف ما حدث بالتأويل، وليس البيان، والتفسير.
لماذا تأويل؟
تأويل لأنَّه نقل المعنى الظاهر للفظ كاملة الذي يتحقق به مراد الله – تعالى – إلى ءاخر لم يأت في الآية؛ لأن لفظ كاملة ليس بمعنى فاضلة.
ما هو معنى (كاملة)؟
من قبل؛ علمنا أنَّ لفظ (كاملة) الذي تم ذِكره عدة مرات في القرءان؛ يعنى الأيام، أو المدة المنفصلة (غير المتصلة) أي الشئ الذي يُمكن أن تنفصل معدوداته.
وهي بذلك التعريف الذي نستنبطه من القرءان تُخالف في ما يدل عليه لفظ (تامه) الذي يدل على المدة المتصلة (أي لا فاصل بينها)، أو الأيام المتتابعة.
هذا تدبر، واستنباط للمعنى؛ فما هو (المراد الحق) الذي يُمكن أن نتبينه من قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾ دون رأي، ودون تأويل؟
لماذا جاء ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾؟
ما نتبينه من بلاغة الآيات هو: أنَّ الله أراد أن يُبيِّن لنا أنَّ صيام الثلاثة أيام في الحج لمن لم يجد الهدي؛ يُمكنه أن يصومها مُتفرقة.
وكذلك الأمر مع صيام السبعة أيام إذا رجع؛ فإنَّه يصومها مُتفرقة.
ما قلته مما سبق هو المراد الذي نستنبطه من الآية؛ وهذا ليس تأويلًا لها؛ لأنَّه يأتي من خلال تدبر الآيات، واستنباط دلالات الألفاظ فيها؛ دون تغيير هذه الألفاظ (الظاهرة) عن دلالاتها البينة؛ أي دون تأويلها بدلالات ألفاظ أخرى لم تذكرها الآيات الكريمة.
وبذلك نستنبط دلالة لفظ (كاملة) والذي بيَّنا المراد منه في الآية؛ فوجدناه جاء للتشريع؛ ليبين لنا ببلاغة البيان، ودقة الألفاظ كيفية صيام الثلاثة أيام في الحج (هل تُصام متتابعة؛ أم متفرقة) وينطبق الأمر على السبعة أيام بعد الرجوع من الحج.
ذلك بيان ووصف لمراد الله في الآية لا يقدر على أن يأتي البشر، ولا الجن بمثله؛ وكان ذلك ردًا (قاطعًا) على من طعنوا في الآية الكريمة، وبلاغتها.
إنَّ تأويل المتشابه من القرءان (حتمًا) سيُغير المراد من الآيات؛ وهذا يضع كلام الله أمام: (القول بالرأي) وهو ما لا ينبغي في القرءان، ولا في أمور الحياة العادية؛ لأنَّها تبدو: كالشهادة دون علم.
ونُؤكد بذلك: أنَّ تبين، ووصف، وتفسير الآية كما هي (على ألفاظها الظاهرة البينة) دون رأي، ودون تأويل؛ هو الذي يجعلنا نستنبط مراد الله من الآيات، ويمنعنا من أنَّ نغير في دلالات ألفاظها، أو المراد منها.
مثال ءاخر: أتى لفظ الطود في القرءان مرة واحدة في قول الله – تعالى – : ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(٦٣) ﴾ الشعراء.
أما لفظ الجبل فقد أتى في القرءان عدة مرات، وصفه اللهُ – تعالى – بقوله: ﴿ وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا (٧) ﴾ النبأ.
ذلك من دقة الألفاظ، وبلاغة البيان.
لماذا؟
(الجبل، الطود) كلاهما لفظ مُختلف عن الآخر.
إذًا كل لفظ له دلالته الخاص به (لأنَّه لا ترادف بين الألفاظ المُختلفة في القرءان).
هل وصف الطود العظيم بالجبل العظيم لاستنباط دلالة الطود بيَّن دقة الوصف في القرءان حين جاء: الطود وليس: الجبل؛ أم أنَّ ذلك أدى إلى تغيير المعنى الحق للفظ للطود؛ فحال دون تبين دلالة الطود من خلال تدبر الآية، وتفسير ما حدث للبحر؟!
إنَّ استبدال الطود بالجبل خلط بين اللفظين؛ فحال دون تبين المُعجزة البيانية في الآية الكريمة التي وصفت ماحدث للبحر بالطود العظيم، وليس: بالجبل العظيم.
لذلك حين تم وصف الطود العظيم: بأنَّه الجبل العظيم؛ نستطيع أنَّ نقول: إنَّ ذلك هو التأويل، والقول بالرأي (أي كان ذلك تأويلًا، وليس بيانًا، وتفسيرًا؛ لأنه خلط بين صفات الجبل، وصفات الطود.
لقد جعل ذلك للفظين دلالة واحدة؛ وهذا لا يتوافق مع دقة الألفاظ في القرءان الكريم؛ فكان ذلك تأويلًا..
لماذا؟
لأنَّ التأويل أتى بمعنى لفظ ءاخر لم يأتِ في الآية (وهو الجبل) الذي له صفات خاصة به؛ لا شك أنَّها تختلف عن صفات الطود الذي أتى في الآية.
وهل يُوجد اختلاف بين لفظي: (الجبل، والطود) في الدلالة، والصفات؟!
نعم، لأنَّهما مُختلفان حقًا؛ فدائمًا علينا أنَّ نتيقن أنَّه لا ترادف بين الألفاظ المُختلفة في القرءان (كما ذكرنا، وبيَّنا في موضوعات سابقة).
إذًا وصف الطود العظيم: بأنَّه الجبل العظيم؛ هو وصف غير دقيق لا محالة؛ لأنَّه أحدث تأويلًا للمعنى الظاهر للفظ الطود بلفظ ءاخر لم تذكره الآية الكريمة؛ وهو (الجبل) فتغيرت بذلك الدلالة الحقة للطود، وصفاته، حين تم وصفه بالجبل.
وهو ما أدى بالتالي إلى تغيير المراد الحق للآية.
أليس هذا هو التأويل (حقًا) الذي أعطى صفات الجبل للطود؛ فغير مراد الآية، وحال دون تبين مُعجزاتها البيانية؟!
لماذا ذلك تأويل؟
لأنه ذهب بنا إلى معنى باطني لم يأتِ في الآية.
كيف نستنبط دلالة، وصفات الطود من القرءان الكريم؟
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا (٧) ﴾ النبأ.
لقد وصف اللهُ – تعالى – بدقة بالغة الجبال بأنَّها أوتادًا؛ والوتد هو ما يكون له جزء يرتفع فوق سطح الأرض، وجزء ءاخر يخترق سطحها.
ما قلته: ليس بتأويل؛ بل هو ما نتبينه من خلال تدبر القرءان، وتفسير شكل الجبل، وصورته حسب الوصف الذي جاء في الآية الكريمة.
هذا هو الفرق بين: (التبيان، والتفسير) من جانب، وبين (التأويل) من جانب ءاخر.
لماذا؟
التبيان، والتفسير يكونان وفقًا للألفاظ، ودلالاتها كما جاءت في الآيات الكريمة دون تغيير.
أما لو غيرنا الألفاظ؛ سيكون ما نقوله: هو تأويلًا؛ لأنّ التأويل: هو ما يُغير الألفاظ عن ظاهرها؛ وبالتالي: يُغيرها عن دلالاتها التي أتت في الآيات حين يتم إعطاءها دلالات لألفاظ أخرى لم تأتِ أصلًا.
وسيكون ذلك تأويلًا، وليس تبيانًا وتفسيرًا، وهو ما سيحول دون تبين المُعجزات البيانية في القرءان.
وبالعودة إلى لفظ الطود؛ فبعد أن تبينَّا معنى لفظ: (الجبل) في القرءان: (أنها أوتادًا) يُمكن بإذن الله من خلال تدبر القرءان أنَّ نستنبط دلالة، وصفات الطود.
مع أنَّ لفظ: (الطود) تم ذِكره في القرءان مرة واحدة، لكن من خلال دقة البيان في القرءان، ودقة الوصف يُمكن أن نتبين منها المراد بالطود..
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(٦٣) ﴾ الشعراء
لنستنبط المراد من الطود؛ فإننا لا نستبدله بلفظ الجبل، ولكن علينا تدبر الآية، وتبين بلاغتها، مع مقارنة ذلك بصفات الجبل؛ حين إذ يُمكن أن نستنبط دلالة وصفات الطود بإذن الله.
وكيف نستنبط دلالة الطود (الحقيقية دون تأويل) من الآية، وهو لم يُذكر إلَّا مرة واحدة؟!
ندرس الألفاظ (كما هي) بدقة، ونتبين الوصف (كما هو) دون تغيير، ونفسر ما حدث لماء البحر، مثل ما يأتي:
ماء البحر ارتفع فوق سطح الأرض، ولكن لم يخترق سطحها (على شكل جذور) أي لم يكن له امتداد تحت سطح الأرض.
تلك هي صفات الطود التي نستنبطها من القرءان، ومن تفسير ما حدث لماء البحر.
ومن خلال تلك الصفات يُمكن أن نستنبط دلالة الطود؛ وهي:
الطود جسد متماسك يرتفع فوق سطح الأرض، ولا يخترق سطحها (ليس له جذور، أو امتداد تحت سطح الأرض).
أما الجبل فهو: جسد متماسك، جزء منه يرتفع فوق سطح الأرض، والجزء الآخر يخترق سطحها؛ فكان ذلك وجه اختلاف بين: (الجبل، والطود) حسب دقة الألفاظ في القرءان، وبلاغة الوصف فيه التي تُعطي كل شئ صفاته بدقة بالغة، ليس للبشر بمثلها.
إذًا هل يستقيم وصف، وتفسير الطود العظيم: بأنَّه الجبل العظيم؟!
مما تبيناه من تدبر القرءان نقول: بالطبع لا؛ فالجبل ليس هو الطود.
إذًا وصف الطود العظيم: بأنَّه الجبل العظيم؛ هو تأويل أخرج الآية عن (المراد الحق) الذي أراده الله – عز وجل – فحال ذلك دون استنباط صفات الطود، ودلالته، وحال دون تبين المُعجزة البيانية في الآية الكريمة.
ومن المهم أن أطرح عليكم تلك الملاحظة: دلالة الطود التي تبيناها؛ تم استنباطها من خلال دقة الألفاظ، وبلاغة البيان في الآية، دون استبدال ألفاظها بألفاظ من خارجها.
هذا من بلاغة البيان في القرءان، وتفصيل ءاياته، وتكاملها مع بعضها دون اختلاف.
وذلك لا يأتي إلَّا بالتدبر، واستنباط الدلالة البالغة لكل لفظ أتى في اللسان العربي المبين (الذي نزل به القرءان) من خلال دلالته التي نتبينها بتدبر القرءان الكريم، دون أن نغيِّر ألفاظه بأخرى لم تذكرها الآيات الكريمة.
إنَّ اللسان العربي: لسان بشر، يفتقر إلى بلاغة اللسان العربي المبين؛ الذي يحتوي على ألفاظ، ودلالات لا تُوجد في اللسان العربي (اللهجات العربية، وما درج عليه الناس) لذلك فإنَّ تبين القرءان يكون بالقرءان.
هذا هو البيان، الذي لا يعني التأويل أبدًا، والذي يُمكن من خلاله؛ استنباط الدلالات الحقيقية للألفاظ، ومراد الله – تعالى – من الآيات دون تأويل (أي دون أن نأتي بألفاظ لم تأتِ في الآية) كما ضربنا المثل السابق بين الطود، والجبل.
لكن الظن بتأويل البشر للمتشابه من القرءان؛ يذهب بنا بعيدًا عن بلاغة دلالة كل لفظ في القرءان، وما أراده اللهُ منها.
من أمثلة التأويل (الحق)، وليس البيان، والتفسير؛ قول الله – تعالى – : ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (٣٦) قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (٣٧) ﴾ يوسف.
هنا يوسف – عليه السلام – يُبيِّن أنَّ التأويل هو علم من الله – سبحانه تعالى – وحده، لم يكن وصفًا، أو تفسيرًا من نفسه؛ بل بيَّن لهم: أنَّه يُحدثهم بعلم يُوحى إليه من عند الله.
لماذا ذلك تأويل؟
نُسميه: تأويلًا؛ لأنه ينقل دلالات الألفاظ الظاهرة التي جاءت في الآيات، إلى دلالات باطنة لم تذكرها الآيات.
فالألفاظ التي عبر بها صاحبي السجن عن رؤيتيهما، نقلها سيدنا يوسف إلى دلالات أخرى أتته وحيًا من الله – تعالى – تُنبئهم بما سيحدث من علم الغيب في المستقبل؛ ليكون ذلك دليلّا على نبوة يوسف – عليه السلام -.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسۡقِي رَبَّهُۥ خَمۡرٗاۖ وَأَمَّا ٱلۡأٓخَرُ فَيُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِن رَّأۡسِهِۦۚ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسۡتَفۡتِيَانِ (٤١) ﴾ يوسف.
نلاحظ هنا: أنَّ الألفاظ الظاهرة؛ وبالتالي: دلالة كل لفظ منها؛ قد تم تأويلها (أي تغييرها) إلى دلالات ألفاظ أخرى باطنية (ولكنها حق) لم تأتِ في الآية.
هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلَّا الله وحده، وهو: تأويل حق لأنه من علم الله أوحاه إلى سيدنا يوسف، ولم يكن تأويلًا باطلًا مثل ما يزعمه بعض البشر دون أن يُوحى إليهم من عند الله عالم الغيب وحده.
فمن أين إذًا للناس بعلم تأويل المتشابه من القرءان؛ حتى يفعلوا كما (وليس مثل ما) فعل يوسف – عليه السلام – الذي أوَّل بعلم من عند الله، وليس من عند نفسه؟!
كيف لا يختلف الناس حول الآيات المتشابهة في القرءان؟
حتى لا يختلف الناس في استنباط المراد من المتشابه في القرءان؛ يجب أن يكون التبين، والاستنباط، والتفسير (وليس التأويل) متوافقًا مع الألفاظ الظاهرة التي أتت في الآية.
إذًا المتشابه من القرءان يتم تبينه، واستنباطه، ووصفه..كما هو وفقًا لظاهر الألفاظ التي أتت في الآية، وليس تأويله إلى دلالات ليست في الآية.
والله أعلم