إنَّ أفضل ما نتبين به ما في القرءان من حق هو: ءايات الله، وهو الَّذي يسميه البعض: تفسير القرءان بالقرءان.
لا شك أنَّ الكثير من الناس يفقهون المراد من قول الله ـ تعالى ـ : (( وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ )) لكن الجميع سيجدون أنفسهم أمام إشكالية عندما يقرءون قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (( وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ )) ذلك إن لم يُدركوا المراد من: (( وَأَتۡمَمۡنَٰهَا )). ما المراد بقول الله: (( وَأَتۡمَمۡنَٰهَا )) ؟ وهل سيتغير المعنى لو جاء: وأكملناها ؟ وهل العشر ليالي اتصلت بالثلاثين ليلة؛ أم كانت منفصلة عنها ؟
إذا فكرت هكذا؛ فأنت تهتم بكل لفظ جاء في كتاب الله؛ لتستنبط المراد منه؛ وبالتالي بدأت تهتم بالبيان في القرءان الَّذي هو سبيلنا لاستنبط مراد الله من الآيات.
ومن ظن أنَّ بعض الألفاظ في القرءان ليست فارقة، أو يُمكن استبدالها أو تفسيرها من خلال لفظ ءاخر؛ ظنًا منه أنَّ ذلك لن يُغير معناها في الآية؛ عليه أن يُعيد حساباته، لأنَّ القرءان بليغ في موضع كل لفظ جاء فيه. إنَّ تبين ما في القرءان من دلالات وبلاغة..من خلال ءاياته؛ يعني أنَّ نستنبط المراد من داخل الآيات، وليس من خارجها. وفي بعض الحالات: يُساعدنا كشف علمي في تبين المراد من الآية، ولكن دون أن نأخذ دلالة الَّفظ (معناه) من خارج القرءان؛ إلَّا إذا كانت دلالة ذلك الَّفظ تتوافق مع دلالته في القرءان.
والسؤال: لِمَ نلجأُ إلى تبين ما في القرءان من خلال ءاياته ؟
لأنَّ دلالات الألفاظ في الَّهجات العربية ليست كلها ببلاغة دلالاتها في القرءان؛ وبالتالي: من خلال دلالة وبلاغة الَّفظ في القرءان، بُمكن أن نتبيَّن كل شئ جاء ذكره في كتاب الله كما أرد الله؛ مثل تبيُّن المراد من قول الله ـ تعالى ـ : (( وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ )) من الآية ( ١٤٢ ) سورة الأعراف؛ هل كانت: أربعين ليلة متتالية؛ أم أربعين ليلة غير متتالية ؟ كيف نستنبط ذلك من القرءان ؟ في البداية: حين نقرأ قول الله ـ تعالى ـ : (( وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ ))؛ قد تحدث إشكالية لدي من يجهل الفرق بين: يُكمل ويُتم؛ لأنَّه لم يتبيَّن دلالة كل لفظ منهما من خلال ءايات الله.
وما هو سبيلنا لنتبيَّن المعنى والمراد ؟
نُقارن بين لفظي: يُكمل ويُتم في كل الآيات التي ذكرت الَّفظين؛ لنستنبط الدلالة الخاصة بكل لفظ منهما.
على سبيل المثال: قول الله ـ تعالى ـ : (( وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ )) من الآية ( ١٨٥ ) سورة البقرة؛ جاءت لتبيّن عدة شهر رمضان التي يكتمل بها الشهر.
وكيف استنبطنا ذلك ؟ لأنَّ يوم العيد يفصل بين شهر رمضان وعدته؛ إذًا لفظ: تُكملوا يدل على إنفصال الشئ؛ فلا يكون متتاليًا؛ وهذا حق؛ لأنَّ لكل شهر نهاية.
أمَّا لفظ: يُتم؛ يمكن أن نتبيَّن دلالته من قول الله ـ تعالى ـ : (( ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ )) من الآية ( ١٨٧ ) سورة البقرة، ولكن شرط أن تكون دلالته متوافقة؛ أي واحدة في كل الآيات التي ذُكر فيها. لا شك أنَّ صيام اليوم يكون متصلًا، وليس متقطعًا ممَّا يعني أنَّ لفظ: (( أَتِمُّواْ )) دل على الوقت المتصل، وليس المتقطع.
ومثل ما قلتُ: يكون ذلك متوافقًا مع كل الآيات التي ذَكرت الَّفظين، أو ما يُشتق منهما. من هنا يُمكن أن نستنبط الإجابة على السؤال الَّذي طرحته من قبل: هل العشر ليالي اتصلت بالثلاثين ليلة؛ أم كانت منفصلة عنها ؟ حين أُطبق ما قلته بالأعلى؛ يتبيَّن لنا أنَّ قول الله ـ تعالى ـ : (( وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ ))؛ جاء فيه لفظ: (وَأَتۡمَمۡنَٰهَا) ليدل على أنَّ الَّيالي كانت متتالية، وليست متفرقة؛ لذلك لم يأتِ لفظ: أكملنها؛ لأنَّه يدل على: عدم توالي المعدود؛ ولأنَّ مراد الآية هو: أنَّ الَّيالي كانت متتالية، وليست متفرقة فناسبها لفظ: (وَأَتۡمَمۡنَٰهَا)، وليس: وأكملناها؛ وذلك من بلاغة كلام الله التي تختلف عن كلام البشر.
إذًا: (( وَأَتۡمَمۡنَٰهَا )) دلت على أنَّ العشر ليالي اتصلت بالثلاثين ليلة ولم تنفصل عنها؛ فكانت الأربعون ليلة كلها متتابعة. وممَّا يدل كذلك على بلاغة كلام الله في الآية، وأنَّه لا يختلف فيه الكلم في أي موضع من مواضعه؛ هو ما نستنبطه من قول الله ـ في ذات الآية ـ : (( فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ))؛ فلو كان القول: فاكتمل ميقات ربه؛ لحدث اختلاف، لكن جاء القول: (( فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ))؛ ليتوافق مع المراد دون أدنى اختلاف بين ألفاظه.
الكتاب تبيان لكل شئ؛ أي تبيان لكل ما فيه من حق تم ذكره في كتاب الله.
والله أعلم.