واحد من الخلافات الشهيرة كانت حول ءازر؛ هل هو والد سيدنا إبراهيم أم عمه؟!
البعض قال: إنَّ ءازر هو والد إبراهيم – عليه السلام – والبعض الآخر قال: ءازر عم سيدنا إبراهيم، وليس والده.
هل إذا تدبرنا القرءان يمكن أن نتبين الحقيقة؟
لا شئ تم ذكره في كتاب الله؛ إلَّا ويمكن أن نتبين من بلاغة القرءان حقيقته بشكل لا يقبل الجدل، أو الخلاف..
فحين نتدبر الآيات، ونتبين بلاغة القول بما يحويه من دقة الألفاظ، ودقة مواضعها؛ يتيسر لنا إن شاءالله استنباط الحق دون تأويل، أو اختلاف.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّيٓ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (٧٤) ﴾ الأنعام.
من الناس من قالوا: إنَّ ءازر هو والد سيدنا إبراهيم، ويصرون على ذلك!
العجيب أنَّهم وصفوا من خالفهم الرأي بالانحراف، والاعوجاج؟!
ويقولون: من قالوا: إنَّ ءازر هو عم إبراهيم – عليه السلام – وليس والده؛ ليس لديهم دليلًا من الكتاب، أو السنة!
ولكن نحن نسألهم
هل حقًا تبين لكم من كتاب الله أنه لا يُوجد فيه دليل يثبت أنَّ ءازر ليس والد سيدنا إبراهيم؟!
في ذلك البحث سنتبين إن شاء الله بالدليل من القرءان الكريم أنَّ ءازر ليس والد إبراهيم – عليه السلام – ويغلب الظن أنَّه: عمه.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ ﴾.
لو كان لفظ: (الأب) لا يُطلق إلَّا على الوالد؛ لماذا ذكر اللهُ – تعالى – لفظ الأب في الآية ﴿ وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ ﴾؟!
لماذا لم يقل: وإذ قال إبراهيم لأبيه دون ذِكر ءازر؛ إذا كان لفظ الأب يصف الوالد فقط؟!
ألا يدل هذا على أنَّ لفظ الأب يدل على أكثر من واحد: الوالد، الجد، العم؟!
لِما لا ونحن نعلم أنَّ القرءان يُطلق لفظ الأب على الوالد، والجد، والعم كما في قول الله – تعالى – : ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ ﴾ من الآية (٣٨) يوسف.
الألفاظ الثلاثة تم وصفها بلفظ واحد وهو: (الأب).
هنا يأتي لفظ ءاخر ليبين الأب المراد، مثل: ﴿ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ﴾.
وكذلك الأمر حين أراد اللهُ – تعالى – تحديد الأب الذي كان يدعوه إبراهيم – عليه السلام – للإيمان؛ قال – عز وجل – : ﴿ أبيه ءازر ﴾ لأن سيدان إبراهيم له أكثر من أب: الوالد، والجد، والعم.
نلاحظ أنَّ لفظ: (أبيه) احتوى على ضمير (الهاء) لكن هذا لم يزل الغموض، أو يبين المراد؛ لهذا جاء لفظ ءاخر يبينه وهو الاسم الذي يُطلق عليه: ءازر.
مثلًا: إذا قال الناس: صلينا في المسجد..فقد لا يعلم البعض في أي مسجد صلوا.
فيكون القول المبين: صلينا في المسجد الحرام.
لقد جاء الاسم: (الحرام) ليبين أي مسجد كانوا يقصدون؛ لأن لفظ المسجد هو وصف لكل بيت من بيوت الله تعالى التي يذكر فيها اسمه؛ لذلك يأتي الاسم بعد لفظ المسجد ليبين أي المساجد هو المراد من القول.
وبالعودة إلى لفظ: (الأب) كما يتبين لنا من كتاب الله؛ لا يُطلق على الوالد فقط؛ بل يُطلق كذلك على الجد، والعم.
ومن الأدلة الأخرى على هذا؛ ما نتبينه من قول الله – تعالى – : ﴿ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ (١٣٣) ﴾ البقرة.
أباء يعقوب – عليه السلام – المذكورين في الآية؛ هم: جده سيدنا إبراهيم، وعمه سيدنا إسماعيل، ووالده سيدنا إسحاق؛ وقد وصفهم القرءان بأنَّهم: ءاباء يعقوب – عليه السلام -.
هذا ما نتبينه من كلام الله بلا تأويل؛ وهو ما يؤكد أنَّ لفظ: (الأب)؛ يُطلق على الجد والعم، وليس على الوالد فقط.
لكن قد يَطرح البعض هذا التساؤل: وما دام أنَّ لفظ: (الأب) يُطلق على الوالد؛ فلماذا لا يكون ءازر هو والد سيدنا إبراهيم، كيف تيقنتم أنه ليس والده؟!
نحن نعلم أنَّ سيدنا إبراهيم كان يدعو أبيه ءازر؛ ليؤمن بالله وحده، ويترك عبادة الأصنام.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا (٤١) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا (٤٢) يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا (٤٣) يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا (٤٤) يَٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا (٤٥) ﴾ مريم.
هنا نتوقف عند العبرة، والموعظة الحسنة: سيدنا إبراهيم يخاطب أبيه ءازر باللين، والقول الحسن..
ومع ما يبدو لنا جليًا من القول اللين، ومشاعر الحنان من سيدنا إبراهيم، وهو يخاطب أبيه ءازر؛ لعله يلين قلبه للإيمان بالله؛ نجد ءازر يقابل هذا بمشاعر قاسية، وبقول فظ، وهو ما يبين إصراره على عبادة الأصنام، والكفر بالله.
ولم يكتفِ بهذا؛ بل هدد سيدنا إبراهيمَ قائلًا: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا (٤٦) ﴾ مريم.
ومع هذا إبراهيم – عليه السلام – لم يقسوا في رده عليه؛ بل قال له: ﴿ قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا (٤٧) وَأَعۡتَزِلُكُمۡ وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدۡعُواْ رَبِّي عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّٗا (٤٨) ﴾ مريم.
إنه أدب الحوار الذي نتعلمه من سيدنا إبراهيم وهو يخاطب من يقسو عليه ويهدده.
متى استغفر إبراهيم – عليه السلام – لأبيه ءازر؟
هنا يمكن أن نتبين تكامل الآيات بشكل رائع، الشئ الذي نستنبط منه أنَّ ءازر ليس والد سيدنا إبراهيم..
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ (١١٤) ﴾ التوبة.
لقد كان استغفار سيدنا إبراهيم لأبيه ءازر قبل أن يتبين له أنه عدو لله، وقبل أن يهاجر.
وماذا فعل بعد أن علم أنه عدو لله؟
بعد أن تبين له أنه عدو لله توقف إبراهيم – عليه السلام – عن الاستغفار لآزر؛ لأنه أدرك أنه عدو الله.
ولنعلم أنَّ القرءان لا يختلف أبدًا، وأنَّ الله حين أنبأنا بأن ءازر عدو لله، وأنَّ إبراهيم – عليه السلام – تبرأ منه؛ فإنَّ هذا كان على المطلق، ولم يكن أمرًا مؤقتًا.
لقد تبين لنا مما سبق أنَّ لفظ: (الأب) لا يصف الوالد فقط؛ بل يصف كذلك الجد، والعم.
ولكن كيف نتبين من القرءان أنَّ ءازر ليس والد سيدنا إبراهيم؟
ءايات القرءان تتكامل دون اختلاف كما نعلم.
ومن روائع البيان في القرءان؛ يتبين لنا في سورة إبراهيم أنَّ ءازر لم يكن والد إبراهيم – عليه السلام -.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ (٣٩) رَبِّ ٱجۡعَلۡنِي مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآءِ (٤٠) رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡحِسَابُ (٤١) ﴾ إبراهيم.
هذا الدعاء كان بعد أن تبرأ سيدنا إبراهيم من ءازر، وبعد الهجرة، وبعد أن وهب له اللهُ – تعالى – : إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام -.
ولأن الدعاء كان في توقيت واحد بعد هجرة إبراهيم – عليه السلام – فإنَّ هذا الدعاء هو الدليل من كتاب الله؛ الَّذي يُبين لنا بشكل يقيني؛ أنَّ ءازر ليس والد سيدنا إبراهيم؛ لأنَّه؛
حسب قول الله – تعالى – : ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ (١١٤) ﴾ التوبة.
الآية تثبت للنبي – عليه الصلاة والسلام – ومن معه من المؤمنين؛ أنَّ إبراهيم – عليه السلام – لم يدعو أبدًا لأبيه ءازر بعد أن تبين له أنه عدو لله.
فيبدو أنَّ النبي والذين معه كانوا يدعون لأقاربهم كما دعا سيدنا إبراهيم لأبيه ءازر؛ فنهاهم الله – سبحانه وتعالى – عن هذا؛ مُبينًا لهم موقف إبراهيم – عليه السلام -.
فهو كان يستغفر له ربه قبل أن يتبين له أنه عدو لله.
وحين تبين له أن أبيه ءازر عدو لله تبرأ من ءازر؛ لأنه لا ينبغي له أن يستغفر لعدو الله.
إذًا قول الله – تعالى – : ﴿ وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ (١١٤) ﴾ كان قبل الهجرة، أي قبل مولد إسماعيل، وإسحاق – عليهما السلام – وقوله – سبحانه وتعالى – الَّذي وصف دعاء سيدنا إبراهيم: ﴿ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡحِسَابُ (٤١) ﴾ كان بعد الهجرة؛ أي بعد مولد إسماعيل، وإسحاق – عليهما السلام -. كل ما سبق يُثبت بالدليل، ودون تأويل (من خلال ءايات القرءان)؛ أنَّ ءازر لم يكن والد سيدنا إبراهيم؛ لأنه لن يدعو له بعد أن تبرأ منه بعد أن علم أنه عدو لله في حين دعا لوالديه بعد ذلك.
ولا يمكن أن يختلف كلام الله؛ مما يعني أنَّ دعاء سيدنا إبراهيم الذي كان بعد الهجرة كان لوالديه الشئ الذي يثبت أنَّ ءازر ليس والد سيدنا إبراهيم.
لأنه يستحيل أن يدعوا له بعد الهجرة، ويستحيل أن يؤمن ءازر بالله؛ لأن الله أنبأ سيدنا إبراهيم بأن أبيه ءازر هو عدو لله.
هذا ما نتبينه من بلاغة البيان في القرءان.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ من الآية (٨٩) النحل؛ فليس بعد كلام الله وءاياته قول يمكن أن نتبين منه الحق دون تأويل.
والله أعلم