إنَّ بلاغة البيان في القرءان لا تتوقف؛ بل هي أكبر من أن نُحيط بها..
من سبقونا اجتهدوا، وتبين لهم ما أراده الله من بلاغة القرءان.
ونحن كذلك نجتهد؛ لكي نتبين بإذن الله مُعجزات بيانية لا يُمكن أن نحصوها.
ومن سيأتون بعدنا سيسيرون على ذات الطريق؛ لكي يستنبطوا مزيدًا من بلاغة القرءان بإذن الله، ولن يُحيطوا بها..
هل الإعجاز في القرءان يعني فقط الإعجاز العلمي؟
من الناس من يظن أنَّ مُعجزات القرءان تظهر في المُعجزات العلمية؛ كعلوم الفضاء، وخلق جسم الإنسان، ومراحل تطور الجنين في رحم الأم..
ومن الناس من يظن أنَّ بلاغة القرءان قد أحاط بها السابقون، ولا جديد بعدهم!
وكثير من الناس من يُؤمن أنَّ القرءان مُعجز، وأنه ليس ككلام البشر، ولكن لا يستطيع أن يتبين ذلك بنفسه..
ومن الناس من يطعن في القرءان الكريم، ويظن أنه مثل كلام البشر، وأنَّ أي كاتب لديه موهبة التأليف؛ يُمكن أن يكتب مثل القرءان؟!
وطعنوا في ءايات القرءان، ومنها قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾ فقالوا: إنها زائدة، لا بلاغة فيها، يُمكن الاستغناء عنها، ولن يختل المعني، أو يتغير، وأنه يُمكنهم قول ما هو أكثر بلاغة منها؟!
هيهات لِمَا يقولون، ولو يُدركون بلاغة الآية؛ ما قالوا ذلك.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۖ وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥۚ
فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖۚ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا
ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي
ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (196) ﴾ سورة البقرة.
إنَّ قول الحق: ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾ يحوي بلاغة لا يقدر الإنسُ والجنُ على أن يأتوا بمثلها، ولا يُمكن أن نُدركها في قول البشر؛ لا سبيل ببلاغتها إلَّا بتدبر القرءان.
علينا أن نطرح ذلك السؤال: لماذا جاءت: (كاملة) وليست: (تامة)؟
نعم، ذلك ربما يكون أوَّل سؤال يجب أن يسأله؛ من يُريد أن يتبين مما في القرءان من بلاغة البيان..
فلكل لفظ في القرءان دلالته الخاصة به، ولكل لفظ موضعه الذي لا يُمكن أن يتبدل..
لماذا؟
لأنه يجب على من يتدبر القرءان أن يُؤمن أنه ما من لفظ في القرءان؛ إلَّا وهو المراد الحق من رب العالمين، ولا مراد غيره، وأنه جاء في موضعه بدقة بالغة، لا نتبينها إلَّا بتدبر القرءان.
ما البلاغة في قول الله ـ عز وجل ـ : ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾ ولماذا لم يقل: (تلك عشرة تامة)؟
لو بمفهوم البشر عن ترادف الألفاظ؛ سيقولون: لا فرق بين: (تامة) و(كاملة)؟!
ولكن من خلال بلاغة القرءان؛ سنقول لهم: لا يُمكن أن تأتي (تامة) بدلًا من (كاملة).
فبلاغة البيان في القرءان، ودقة ألفاظه، ومواضعها، التي هي من قدرة الله وعلمه؛ تجعلنا نقول: لو تم استبدال كاملة بتامة سيتغير المراد؛ بل وسيُحدث ذلك اختلافًا كثيرًا..
ونقول لمن طعنوا في القرءان: الآية ليست زائدة، وليست خالية من البلاغة، ولا يُمكن الاستغناء عنها؛ لأنه سيختل المعنى.
ما هي دلالة كاملة في القرءان؟
كاملة في القرءان تدل على عدم تتابع المعدود بشكل عام، مثل: عدم تتابع أيام الصيام، وذلك نتبينه من قول الحق: ﴿ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ ﴾ فلا شك أنَّ العدة لا تلي شهر رمضان مباشرة، ولكن يُفصل بينهما بيوم العيد.
أما تامة في القرءان؛ فهي تدل على تتابع المعدود، مثل ما نتبينه في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ لۡمُفۡسِدِينَ (142) ﴾ سورة الأعراف.
فلا شك أنَّ الميقات تم بمرور أربعين ليلة متتابعة، لا فاصل بينها..
ليلة تليها ليلة، وهكذا حتى تم ميقات أربعين ليلة.
لذلك قال الحق: ﴿ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا ﴾ وليس: (وأكملناها) ذلك مما نتبينه من بلاغة البيان في القرءان، وأنه لا ترادف بين ألفاظه المختلفة.
لفظ تامة يدل على تتابع المعدود، أو اتصال الزمن.. دون أن ينقطع كما في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِ ﴾ ليتبين لنا عدم وجود اختلاف، أو تناقض بين الآيات الكريمة.
وبالعودة لقول الله ـ تعالى ـ : ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾ بينت (كاملة) أنَّ صيام الثلاثة أيام في الحج يُمكن أن تكون مُتفرقة، وليست مُتتابعة، وأنَّ صيام السبعة أيام بعد الرجوع من الحج؛ يُمكن أن تكون مُتفرقة، وليست مُتتابعة..
حين نتدبر القرءان يتبين لنا أنَّ التشريع في كيفية صيام العشرة أيام، هو ما أراده الله ـ عز وجل ـ من قوله: ﴿ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ﴾.
وهذا مثال على المُعجزة البيانية، والبلاغية، والتشريعية؛ جاءت كلها مُوجزة بشكل بالغ الدقة، والكمال.
وهذا لا نتبينه إلَّا بتدبر ءايات القرءان، ونستيقن أنَّ كل لفظ جاء فيه، قد جاء في موضعة بإحكام بالغ، كامل، تام، ومطلق.
ولنعلم أنَّ المُعجزات البلاغية، والبيانية التي تصف لنا مراد الله؛ هي في كل لفظ، وفي كل موضع في كتاب الله.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ
مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٤ شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ
وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (185) ﴾ سورة البقرة.
﴿ أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا
عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ
ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ
يَتَّقُونَ (187) ﴾ سورة البقرة.
كيف نُعبر متأثرين ببلاغة القرءان؟
مما سبق:
لو أراد إنسان أن يصوم سبعة أيام متتابعة، وأراد أن يُعبر عن ذلك بما تعلمه من بلاغة البيان في القرءان؛ فإنه سيقول: سأصوم سبعة أيام تامة؛ وسنفقه من قوله أنه سيصوم سبعة أيام متتابعة، وليست متفرقة..
مثل الليالي المُتتابعة التي انتظرها سيدنا موسى لكي يتم ميقات ربه ﴿ وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ لۡمُفۡسِدِينَ (142) ﴾.
وبما يُعبر إنسان سيصوم سبعة أيام مُتفرقة؛ أي ليست مُتتالية؟
سيقول ـ مُتأثرًا ببلاغة القرءان ـ : سأصوم سبعة أيام كاملة.. فنفقه أنه سيصوم سبعة أيام ليست مُتتابعة..
وتظل بلاغة البيان في القران لا تنضب أبدًا.. من سبقونا لم يُحيطوا بكل ما فيها، ونحن لن نُحيط بها.
ومن سيأتون بعدنا هم كذلك لهم نصيب منها، ولكن لن يُدركوا كل ما في القرءان الكريم من بلاغة البيان.
لأن بلاغة القرءان هي من قدرة الله ـ عز وجل ـ وقدرة الله مُطلقة.