ما هو الفرق بين منطقية الألفاظ في القرءان الكريم، من حيث دقة مواضعها، وبلاغة كل لفظ منها (حين نتبين، أو نفسر القرءان من خلال الآيات ذاتها) وبين اللفظ البديل الذي يتم استخدامه في تفسير القرءان بالرأي؟
تلك الأسئلة أرجو من الله أن أجيب عنها خلال ذلك المقال؛ استنادًا إلى ءايات القرءان ذاتها، وكيف تُفسر تلك الآيات الكريمة، وتُبين بعضها، دون الحاجة إلى الإتيان بلفظ بديل من خارج الآية يغير معناها..
بعض المفسرين حين لا يجدون دلالة لفظ في القرءان؛ قد يلجأ إلى اكسابه دلالة لفظ ءاخر لم يأتِ في الآية الكريمة..فهل هذا هو التفسير بالرأي؟
نعم، هذا هو التفسير بالرأي..
لماذا؟
لأن إشكالة التفسير بالرأي تظهر في أنها لا تعتمد على استنباط دلالة اللفظ الذي جاء في الآية من خلال الآيات الأخرى التي جاء فيها اللفظ، أو استنباط دلالة اللفظ من دقة الوصف القرءاني للحدث ذاته..
بل يذهب المفسر لاستبدال اللفظ الذي لم يستنبط دلالته من الآية الكريمة بلفظ ءاخر لم يأتِ فيها..
وسنضرب على ذلك أمثلة من القرءان..
وهنا نكون قد ابتعدنا عن تفسير، أو تبين القرءان بالقرءان الذي يعتمد على الدلالات القرءانية الدقيقة والمُعجزة، وبلاغة الوصف القرءاني في استنباط ما نجهل معناه من تلك الألفاظ.
وما نتيجة ذلك؟
يُؤدي إلى اختلاف وجهات النظر بين المفسرين؛ وبالتالي: اختلاف التفسير، وربما تناقضه!
وما الفرق بين تبين، أو تفسير القرءان بالقرءان من جهة، والتفسير بالرأي من جهة أخرى؟
تبين، أو تفسير القرءان بالقرءان يعتمد على الآيات ذاتها في استنباط دلالة اللفظ، أو المراد من الآية؛ بما يتوافق مع دلالة و بلاغة اللفظ ذاته كما جاء في كتاب الله.
ذلك لأن الآيات تُفصل بعضها (ما أُجمل في ءاية، أو ما له دلالة قد لا تكون منتشرة بين الناس؛ يُمكن استنباط دلالته من ءايات أخرى، أو من وصف الحدث في الآية ذاتها).
ومن الأدلة على أنَّ الآيات تُفصل بعضها هو قول الله ـ تعالى ـ :
﴿ الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) ﴾ سورة هود؛ دليل على ذلك.
كيف تختلف وجهات النظر حين يأتون بألفاظ من خارج القرءان؟
حين يلجأ البعض في تبين دلالة اللفظ الذي جاء في الآية الكريمة إلى محاولات التوفيق بين اللفظ الذي جاء في القرءان، وما يراه واعتاد عليه من
ألفاظ أخرى (ولو جاءت في القرءان) اكتسبت معانيها من اللهجات العربية التي اكتسبت ـ بدورها ـ أغلب ألفاظُها تلك المعاني من التذوق البشري، والتي قد تتغير مع مرور الزمن، أو من مكان لآخر.
هنا يكون التفسير بالرأي الذي يختلف فيه الناس حيث يتم تبين الآية، أو دلالة اللفظ بلفظ ءاخر ليس له ذات الدلالة.
من أمثلة ذلك: تفسير قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ من الآية (196) البقرة؛ فقالوا: أي (تلك عشرة فاضلة).
ماذا حدث هنا؟
تم استبدال لفظ كاملة الذي جاء في الآية بلفظ فاضلة الذي لم يرد فيها، ولا شك أنَّ لكل لفظ منهما دلالته، ولا شك أنَّ بلاغة لفظ: (كاملة) هي التي يتحقق بها مراد الله ـ عز وجل ـ.
هذا يعني أنَّ دلالة: (كاملة) ليست هي دلالة: (فاضلة)..
لِمَا لا وكلا اللفظين جاء في القرءان؟!
فاضلة من الفضل..والفضل هو العطاء دون مقابل..
وذلك نتبينه من قول ـ الحق ـ : ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا(32) ﴾ النساء.
لكن مراد الآية من خلال لفظ كاملة هو التشريع الذي يُبين لنا طريقة صيام الثلاثة أيام في الحج، والسبعة أيام بعد الرجوع من الحج.
لهذا حين قالوا: كاملة أي فاضلة؛ غيروا مراد الآية فحدث التفسير بالرأي الذي جعل الناس لا يتبينون بلاغة لفظ كاملة الذي يعجز البشر على أن يأتو بمثله في تعبيراتهم كما جاء في الآية.
وعلى أي شئ دلَّ لفظ كاملة؟
حين نعود للقرءان لنتبين دلالة اللفظ (وهذا كان في بحث سابق) وجدنا: أنَّ (كاملة) تعني عدم تتابع الأيام، أو المعدودات.
وكذلك تعني مدة زمنية متقطعة (غير متصلة) ذلك ما تبيناه من بلاغة اللفظ في القرءان الكريم..
وهنا سأستدل على هذا بقول ـ الحق ـ : ﴿ شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (185) ﴾ البقرة.
فلا شك أنَّ صيام عدة رمضان ينفصل عن الشهر على الأقل بيوم العيد؛ وهذا هو الذي فصل بين الشهر والعدة، فلا يُمكن أن تلي العدةُ الشهر مباشرة؛ أي وصل صيام العدة بالشهر دون فاصل بينهما؛ لأنه لا يمكن صيام يوم العيد.
ماذا نستنبط من ذلك؟
نستنبط أنَّ لفظ كاملة في قول الله تعالى: ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ بين أنَّ مراد الآية هو صيام الثلاثة أيام في الحج بشكل متفرق وليس شرطًا أن تكون متتابعة.
وكذلك الأمر بالنسبة للسبعة أيام بعد الرجوع من الحج؛ هذا هو المراد من لفظ كاملة في الآية الكريمة.
وبهذا رددنا على من أثاروا شبهة حول الآية؛ حين ظن البعض أنَّ الآية ليست بليغة، ومنهم من قال: ليست هناك عشرة كاملة وعشرة ناقصة!
ذلك لأنهم لم يتبينوا دلالة: (كاملة) من الآيات، و ما أشارت إليه من تشريع في الآية الكريمة؛ الذي يظهر لنا بلاغة القرءان الكريم.
ومن بلاغة الألفاظ في القرءان والوصف الذي يعجز البشر على أن يأتوا بمثله؛ تفريق القرءانُ بين دلالتي الطود والجبل..
لفظ: (الطود) جاء في القرءان مرة واحدة؛ ولكن من خلال الوصف القرءاني البليغ للحدث يُمكن أن نستنبط دلالته كما هي في القرءان الكريم..
حين تم تفسير الطود في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ (63) ﴾ الشعراء؛
بأنه الجبل العظيم؛ كان ذلك استبدالًا للفظ الطود بلفظ الجبل فغير هذا من المراد، وحال دون تبين بلاغة الآية والوصف القرءاني الذي يعلو فوق وصف البشر.
كيف ذلك؟
نعلم أنَّ الجبال تم وصفها في القرءان بأنها أوتادًا ﴿ وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا (7) ﴾ النبأ؛ والأوتاد تُثبت الشئ، أغلبها يكون تحت سطح الأرض.
إذًا الآية الكريمة تُبين لنا أنَّ الجبال لها امتداد تحت سطح الأرض؛ أو ما يُشبه الجذور؛ لأنها تُثبت الأرض فلا تميد بمن عليها..
أما مانستنبطه كدلالة للفظ: (الطود) فهو من خلال ما حدث لماء البحر..
فحين انفلق البحر ارتفع الماء، ولكن لم يخترق الأرض على شكل أوتاد، أو جذور فكان ذلك هو الاختلاف بين الطود والجبل حسب بلاغة القرءان الكريم، ودقة ألفاظه، ووصفه لكل حدث بما يناسبه من ألفاظٍ مناسبة وبليغة.
الطود هو الشئ (الجسد) الذي يرتفع فوق سطح الأرض ولكن لا يخترق سطحهان، مثل: وضع كومة كبيرة من الرمال على الأرض.
من أمثلة اختلاط دلالات الألفاظ في اللهجات العربية: الخلط بين ألفاظ: الجسم، والجسد، والبدن.
(وذلك له بحث على الموقع..)
يقولون في اللهجات العربية: جسد الإنسان.. ولكن ذلك أراه يُخالف دلالة لفظ: الجسد في القرءان الكريم: ﴿ وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدٗا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ
وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ (8) ﴾ الأنبياء؛ لأن الجسد لا يأكل الطعام كالتماثيل، مثل: عجل السامري: ﴿ وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِيِّهِمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٌۚ أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّهُۥ لَا يُكَلِّمُهُمۡ وَلَا يَهۡدِيهِمۡ سَبِيلًاۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ (148) ﴾ الأعراف.
ويقولون مثلًا: جسم السيارة، أو جسم السفينة.. حيث يتم إطلاق لفظ: (جسم) على الشئ الذي لا يأكل الطعام كما يطلقونه على الأحياء.
لكن لفظ: (جسم) لا يصف إلَّا الأحياء الذين يأكلون الطعام؛ كما جاء في القرءان: ﴿ وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ
يَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَةٗ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ (247) ﴾ البقرة.
وتتأكد لنا دلالة لفظ: (الجسم) من القرءان؛ أنه وصف فقط لمن يأكل الطعام في قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ إِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ
وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ (4) ﴾ المنافقون.
وماذا عن دلالة لفظ: (البدن)؟
في اللهجات العربية يتم به وصف الإنسان الحي والميت، وكذلك الأشياء غير الحية؛ كقول البعض: بدن السيارة، أو السفينة.
إطلاق لفظ: (البدن) على الإنسان أحدث شبهة لدى البعض حول موت فرعون في البحر؛ فقالوا: القرءان متناقض لأنه مرة يقول: فرعون غرق، ومرة أخرى يقول: فرعون نجا؟!
لكن نقول لهم: إنكم لم تتبينوا بلاغة القرءان؛ وكيف يأتي كل لفظ في موضعه حسب دلالته في كتاب الله، وليس حسب اللهجات العربية، أو ما اكتسبه من معاني تُخالف معناه في القرءان الكريم.
فالبدن دلالته في القرءان هي: الجسم بعد موته؛ قال ـ الحق ـ : ﴿ وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ
فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (36) ﴾ الحج؛ الأنعام تأكل الطعام وبعد ذبحها صارت: (بُدۡنَ) جمع: (بَدن).
هذا يعني أنَّ فرعون الذي كان يأكل الطعام غرق بالفعل، ولم ينجُ حيًا؛ لأن الله لم يقل: ننجيك بجسمك؛ بل قال ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿ فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ (92) ﴾ يونس.
كانت نجاة بدن فرعون: أنه لا يهلك في الماء؛ حيث يلقيه اليم على الساحل ليراه من تتبعوا أمره أنه أصبح مجرد بدن لا حياة فيه؛ ليستيقنوا أنَّ فرعون قد مات.
هذا أراه من بلاغة الوصف في القرءان، وبلاغة ألفاظه التي تعلو فوق قول البشر.
وفي النهاية:
القرءان أنزله الله ليحكم على ما لدينا، ونتبين منه سبيل الحق، ويُصوب ما لدى الناس من علم خاطئ، ودلالات (معاني) ليست كما جاءت في كتاب الله.
ولكي نصل لذلك علينا ألَّا نُغير من دلالات الألفاظ عما جاءت في القرءان الكريم بدلالات لألفاظ أخرى من خارج الآيات، أو بدلالات لا نستنبطها من الآيات الكريمة.
وعكس ذلك:
هو حكم بما اعتاد عليه الناس من خلال نظرة سطحية دون إمعان النظر، أوالتفكر في دلالة اللفظ من خلال الآيات التي جاء فيها ليستنبطوا المعنى الحق كما جاء في الآيات.
لذلك دقة البيان في القرءان هي التي تُيسر لنا بإذن الله استنباط دلالة اللفظ كما جاءت في القرءان الكريم، والتي تُبين لنا أنَّ القرءان ليس ككلام البشر.
والله أعلم.