من أمثلة الخلط بين اللفظين: إطلاق لفظ المُنشئات على المباني، أو السفن!
ولكن حين نتبين الفرق بين لفظي: (صَنع، أنشأ) أو (صُنع، نشأ) من القرءان الكريم نجد ما يلي:
لفظ: (صنع) يكون في حال صناعة شئ (بالتعبير الدارج تشكيله) من مكونات مختلفة، وهي التي نُسميها: (خامات) مثل: الحديد، الخشب، الحبال..
حيث يتم تشكيلها مع بعضها البعض (دون تغيير صفاة كل مكون منها) لتعطي مثلًا: شكل السفينة، أو شكل المبنى كالبيت، أو حتى شئ يتم صناعته من مكون واحد كالمسمار الذي يتم صناعته من الحديد..هنا نستخدم لفظ: (يصنع).
لكن الأمر يختلف مع لفظ: (يُنشئ، أنشأ) فحين نصف خروج الثمار من الشجر لا يمكن أن يتم وصف ذلك بلفظ من ألفاظ (صَنَعَ) بل نستخدم لفظ من ألفاظ: (نشَأ).
فالنشأة هي اللفظ المناسب لوصف خروج الثمار من الشجر.
لماذا هي اللفظ المناسب؟
القرءان فرق بين دلالات الألفاظ بشكل بالغ الدقة، لأن القرءان هو كلام الله الذي خلق كل شئ، وأحاط بكل شئ علمًا.
فحين يأتي الوصف من عند الله يكون هو الوصف المعبر بدقة.
مثلًا بماذا يصف القرءان نمو الشجر؛ هل بلفظ صنع، أم أنشأ؟
لا شك أنَّ الوصف سيتوافق مع طبيعة الشئ..
الشجرة كانت من قبل: بذرة؛ ثم أصبح للبذرة: جذعًا، وفرعًا، وأوراقًا، وأزهارًا، وفي بعضها ثمارًا..مكونات صلبة وأخري طرية، ألوان مختلفة، ومذاق مختلف.
كيف ذلك؟
إذا نظرنا إلى ورقة الشجرة بجوار الثمرة؛ ألا نلاحظ أنَّ المكون لهما هو البذرة؟
نعم فكلاهما نشأ من ذات العناصر.
ومع أنَّ المكون واحد نلاحظ اختلافًا ظاهرًا بين الورقة، والثمرة.
ظهر ذلك الاختلاف في شكل، وطعم، ورائحة الثمرة، وشكل، وطعم، ورائحة الورقة (من جانب ءاخر) مع أنَّ أصلهما واحد.
وكذلك اختلفا في اللون، والملمس..
لنلاحظ دقة الوصف حين جاءت لفظ: (أنشأ) وما ارتبط به من ألفاظ أخرى، مثل: (واحد، أصل) في القرءان الكريم:
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) ﴾ الأنعام.
وفي قول الله – عز وجل – : ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) ﴾ الرعد.
قال الله – تعالى – : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (٢٧) ﴾ فاطر.
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) ﴾ إبراهيم.
وكذلك العسل أنشأه الله من كل الثمرات فصار عسلًا ﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) ﴾ النحل.
تلك هي النشأة؛ مكونات مختلفة تجمعت في أصل احد؛ ثم أُنشئ منه أشياءً مختلفة بإذن الله وقدرته.
كالبذرة التي يُنشئ اللهُ منها الجذع، والفرع، والأوراق، والأزهار، والثمار والألوان المختلفة، والملمس المختلف، والمذاق المختلف..أصل واحد أُنشئ منه أشكالًا مختلفة.
فالبذرة لم تحمل بداخلها الجذع، والفرق، والأوراق، والأزهار، والثمار، والألوان؛ بل أنشأه اللهُ بقدرته.
لكن الأمر يختلف في حال صناعة السفينة؛ لأنَّ مكوناتها يتم جمعها مع بعضها دون أن تختلف صفاة كل مكون منها.
(حيث لا تُنشأ السفينة من أصل يتشكل، ويخرج لنا سفينة)!
فالحديد يظل كما هو، والخشب يظل كما هو، ولكن تختلف الصورة، مثل: أن يأخذ الحديد صورة الإنحناء، أو المسمار.
والخشب يأخذ صورة الكرسي، أو الطاولة، أو صورة من جسد السفينة.
لماذا نصنع السفينة، وليس نُنشئ السفينة؟
لأن السفينة تُصنع من أشياء مختلفة: كالحديد الذي لا يخرج من مادة الخشب، (أو العكس)، كل شئ منهما هو شئ ءاخر (مختلف) له صفات خاصة به.
والسائل الذي يستخدم في تلوين السفينة، هو (حتمًا) مختلف عن الحديد، والخشب، وغيرهما من المكونات المادية التي تدخل في صناعة السفن.
كذلك الأمر بالنسبة للبيت هو من مكونات مختلفة يُشكلها الناس مع بعضها؛ لذلك لا نقول عن المباني: المنشئات؛ فهي لا تنشأ من أصل واحد، أو من مكونات مختلفة تتشكل بذاتها، وبقدرة الله، ولكن نصفها بالمصنوعات؛ لأنَّها تُصنع من مكونات مختلفة.
وسأذكر بعض الآيات من القرءان
قال الله – تعالى – : ﴿ لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ (٦٣) ﴾ المائدة.
أشارت الآية إلى مكونات شيئية (ذوات منفصلة)؛ كالقول (وهو شئ) وأكل السُحت، وهو شئ (مادي) ءاخر مكتسب؛ أي كل ذلك من الأفعال المادية (المكتسبة) التي يفعلها الإنسان إذا خالف أوامر الله – تعالى – لذلك تم وصفها بلفظ: (يصنعون) وليس (يَنشِئون).
ويتبين المعنى في قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ ﴾ من الآية (١٣٧) الأعراف.
أشارت الآية إلى أفعال تجمع مكونات مادية يقوم بصناعتها فرعون، وقومه سواء كانت بناء قصور، أو صناعة الأوتاد التي كان فرعون يصلب الناس عليها.
ولفظ: (يعرشون) يصف ما يتم صناعته (من أشياء) من الطين..فكل ما صنعه فرعون وقومه؛ دمره الله؛ والتدمير يتوافق مع الشئ المادي الذي يتم تشكيله (أي صناعته).
قال الله – تعالى – : ﴿ وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ (٣٧) ﴾ هود؛ فمن بلاغة البيان في القرءان الذي فيه كل لفظ يأتي في موضعه؛ لم يقل له: (إنشئ الفلك)؛ بل قال – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ ﴾ لأن الفلك الذي سيحمل سيدنا نوح، والذين ءامنوا معه؛ يتم صناعته من مواد (خامات) يتم جمعها مع بعضها؛ كالأخشاب، والحديد، والحبال؛ ليصنع منها الفلك.
ولأن الفلك لا يُنشأ من أصل واحد (بذاته) لذلك قال الله – تعالى – : ﴿ وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ ﴾؛ وليس (وإنشئ الفلك).
قال الله – تعالى – : ﴿ وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرٖۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ (٦٩) ﴾ طه.
لأنَّ السحرة صنعوا من مكونات مادية (وهي حبالهم وعصيهم) أشكالًا خيل إلى الناس (من سحرهم) أنها تسعى، فما قام به السحرة من تعامل مع المواد التي كانت معهم ناسبه وصف: (صنعوا).
﴿ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ ﴾ من الآية (٣٩) طه.
أشارت الآية ببلاغة رائعة إلى مجموعة من الأحداث (المكونات المادية) المكتسبة التي أتت إلى موسى – عليه السلام – بعد مولده، مثل: إلقاء موسى – عليه السلام – في اليم، وتربيته في قصر فرعون، وقوته التي اكتسبها فكانت سببًا في أن يرفع الحجر الخاص ببئر المياه في مدين، وكذلك أشارت إلى لون بشرته في حال كان مكتسب بعد مولده؛ ليتوافق مع ءاية إخراج يد موسى بيضاءً للناظرين من غير سوء أمام فرعون، وملائه؛ فكل ذلك صناعة، وليس نشأة.
أمَّا بلاغة لفظ: ﴿ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ ﴾ في قول الحق: ﴿ وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ ﴾ فقد دلَّ على أن تُصنع تلك الأشياء بقدرة الله مباشرة (دون ملائكة تنفذ أوامر الله).
والآن نتبين لفظ: نشأ (أنشأ) وما يخرج منهما من خلال ءايات القرءان
قال الله – تعالى – : ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّٞ وَمُسۡتَوۡدَعٞۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ (٩٨) ﴾ الأنعام
أنشأكم أي أخرجكم من نفس واحدة (من أصل واحد) وهو ءادم – عليه السلام ـ .
﴿ فَأَنشَأۡنَا لَكُم بِهِۦ جَنَّٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ لَّكُمۡ فِيهَا فَوَٰكِهُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ (١٩) ﴾ المؤمنون.
لأنَّ الجنات تتشكل من زرع يخرج من البذور المختلفة؛ وكل بذرة ينشأ منها: جذع، وأفرع، وأوراق، وأزهار، وثمار. كله أُنشئ من أصل واحد ذاتيًا بقدرة الله – تعالى – فكونت شجرة؛ لذلك جاء لفظ: ﴿ فأنشأنا ﴾، وليس (فصنعنا).
قال الله – تعالى – : ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ (٧٨) ﴾ سورة المؤمنون.
لم يأتِ: (صنع لكم) ولكن جاء: ﴿ أَنشَأَ لَكُمُ ﴾ وذلك من بلاغة القرءان الكريم..
فالسمع، والبصر، والأفئدة لا تأتي من خارج الإنسان؛ إنَّما ينشئها الله بقدرته من الإنسان، وليس من خارجه.
﴿ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ ﴾ من الآية (٣٢) النجم.
حيث مكونات الإنسان من الأرض، فنشأ (نمى، وتشكل) الجنين في بطن أمه؛ أنشأ اللهُ فيه: العظام، والَّحم، و الأعصاب، والأعضاء كالقلب، والرئة؛ فكل ذلك (ومع اختلاف أشكاله) كان قد أنشأه اللهُ من مادة واحدة وهي: (النطفة) والنطفة تشكلت بقدرة الله فأعطت شكل الإنسان ومكوناته حين تغذت على مكونات الأرض والماء.
لا أحد من الناس يتدخل وينشئ الجنين، بل ذلك يتم ذاتيًا بقدرة الله فتتمايز العظام والَّحم، والدورة الدموية، والقلب، والمخ، والرئة، وتُنشأ الأذن، والعين، وغيرها من مكونات واحدة (نطفة، تراب، ماء، غذاء) تمايزت بعد النشأة ولم تكن موجودة من قبل دون تدخل من الناس؛ لذلك نقول: أنشئت: القلب، العظام، الَّحم، العين..،وليس صُنعت.
كل ذلك أنشأه اللهُ وحده بقدرته.
قال الله – تعالى – : ﴿ وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (٢٤) ﴾ الرحمن.
هنا نلاحظ دقة القرءان في أمر قد يبدو غير مُلفت للنظر؛ وهي جبال الجليد؛ حيث تم تفسير الآية على أنها الفلك (السفن)..
لكن هذه الآية لا يُراد بها الفلك (السفن) لأن الله – تعالى – لم يقل: (المصنوعاتُ في البحر)، ولكن قال – سبحانه وتعالى – : ﴿ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ ﴾ أي التي أنشيئت في ماء البحر (أي من مائه) وهي جبال متجاورة.
ألا يدل ذلك على بلاغة البيان في القرءان، ويرد على من يقولون: إنه قول بشر؟!
نحن نعلم أنَّ الجليد أُنشئ من ماء البحر، فليس هنا مكون ءاخر غير الماء الذي يتجمد فيُنشأ منه الجليد (الذي يأخذ شكل الجبال) جزء منه فوق سطح البحر، والآخر تحت سطحه.
الماء بذاته تحول لجليد صلب (شكل، وصورة الجليد تختلف عن شكل، وصورة الماء السائل مع أن المكون هو الماء)
ولأنَّ الجليد من ذات مادة البحر؛ أي من الماء، وأُنشئ ذاتيًا بقدرة الله – تعالى – جاء لفظ: ﴿ المنشئات ﴾ إشارة إلى الجليد، وليس السفن.
وهذا من دقة القرءان في كيفية وصفه لجبال الجليد بلفظ المنشئات.
ولا يمكن أن يكون ذلك وصفًا لنشأة الفُلك (السفن) لأنَّها (كما بينت) (تُصنع)، ولا تُنشأ.
وسيكون بإذن الله هناك موضوعًا آخر عن جبال الجليد، وكيف تتحرك في البحار كالأعلام (الأعلام جمع علم، والعلم هو الشئ المميز الذي يمكن رؤيته).
والله أعلم.