قول الله تعالى: ﴿ قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ (٦٥) ﴾ النمل.
(إلَّا اللهُ) هذا مُستثنى؛ فمما استثنى اللهُ تعالى نفسه؟
اختلف في ذلك العلماء؛ وسبب اختلافهم هو: هل استثنى اللهُ نفسه من الذين يُوجدون في السموات والأرض كما في الآية: ﴿ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾؟!
هل هذا مستثنى متصل؟
ما هو المستثنى المتصل في قواعد اللسان العربي؟
المُستثنى المُتصل يكون فيه المُستثنى من جنس المستثنى منه، مثل: ذهب القومُ إلَّا رجلًا؛ فالرجل من جنس القوم.
ولكن ظهرت هنا معضلة، وهي: لو كان ذلك من المستثنى المتصل؛ فكيف يستثني اللهُ نفسه من المخلوقات؟!
أم أنَّ هذا مستثنى منقطع الذي لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه؟
لماذا مستثنى منقطع؟
لأنَّ الله ليس من المخلوقات التي في السموات والأرض.
قليل من قال: إنَّه مستثنى متصل؛ لأنَّه – حسب ظنهم – يقولون: إنَّ الله في السماء!
ولكن جمهور العلماء خالفوهم في الرأي؛ فقالوا: لا يجوز أن يكون لفظ الجلالة (الله) مستثنى متصلًا؛ لأنَّه سيجعل اللهَ ممن في السموات، والأرض مع خلقه!
وذلك لا ينبغي لأن الله ليس مع مخلوقاته في السموات والأرض!
لذلك قالوا: بل هو مستثنى منقطع (أي أنَّ المستثنى وهو لفظ الجلالة (الله) ليس من جنس المستثنى منه (وهي المخلوقات التي في السموات، والأرض).
وأنا أُضيف على رأيهم رأيًا ءاخر؛ للرد على من يقولون: إنَّ ذلك استثناء متصل؛ لأنَّ الله في السماء!
إنَّ الآية لا تقول من في السماء! بل قالت من في السموات؛ فهل الله في السموات كلها، أم كما يقولون: إنَّه فوق السماء السابعة جالس على عرشه؟!
لو تبينا الأمر حسب كلامهم؛ سيظهر في قولهم اختلاف كبير؛ هل الله فوق السماء السابعة فوق العرش؛ أم في السموات كلها؟!
ولو فرضنا في السماء حسب ظنهم، أو في السموات! (والظن لا يُغني من الحق شيئًا) فإن الآية الكريمة تقول: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ ﴾.
ما هو وجه الاختلاف بين قول من ظنوا أنَّ اللهَ – تعالى – في السماء، وما جاء في الآية الكريمة؟
وجه الاختلاف هو أنَّ الآية لم تقل: السموات فقط؛ بل قالت من في السموات، والأرض! لقد ذَكرت الأرض كذلك.
فكيف يستقيم ما قالوه: إنَّ اللهَ استثنى نفسه لأنه في السماء؟!
حسب قولهم ألا يعني ذلك أنَّ اللهَ – تعالى- في الأرض؟!
ولو أنكروا ذلك؛ فكيف يُؤولون أنَّ اللهَ في الأرض من خلال مقياسهم الذي يثبتون به أنَّ اللهَ في السماء؟! فما ينطبق على السموات من حيث القياس ينطبق كذلك على الأرض؛ لأنَّ كلا اللفظين (ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ) تم ربطه بحرف العطف (الواو) فيكون حكمهما (أي السموات، والأرض) واحدًا.
ماذا يعني: أنَّ الحكم سيكون واحدًا؟
ما ينطبق على لفظ (السموات) ينطبق كذلك على لفظ (الأرض) دون تأويل؛ لأنَّهما يشتركان في ذات القاعدة.
هم قالوا: الله في السماء؛ فهل هذا يعني أنَّ الله في الأرض بنفسه موجود فيها؟!
بالتأكيد لا؛ مما يعني خطأ ظنهم أنَّ اللهَ استثنى نفسه ممن في السموات.
لماذا ظنهم خاطئ؟
لأن اللهَ ذَكر الأرض كذلك في الاستثناء.
إذًا القول: بأنَّ الله في السماء؛ لا يجوز؛ لأنَّ اللهَ ليس كمخلوقاته له مكان، أو يُحيط به شئ، لا تحويه السموات، ولا الأرض.
بل كما قال – سبحانه وتعالى – عن نفسه: ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ من الآية (١١) الشورى؛ فهي قول محكم يَردُ كل تصور، وخيال لا ينبغي في حق الله – سبحانه وتعالى -. وبعد قول الله عن نفسه لا قول.
فالله ليس بنفسه في السموات، ولا يجلس على العرش.
إنَّ اللهَ هو من خلق السموات، وخلق العرش، واللهُ لا ينقصه شئ، غني عن خلقه.
إذًا مما استثنى اللهُ – عز وجل – نفسه في قوله: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ (٦٥) ﴾؟
من قالوا: إنَّ الاستثناء في الآية هو استثناء متصل؛ استدلوا بأنَّ المستثنى المتصل لا يكون إلَّا منصوبًا، ولا يجوز أن يأتي مرفوعًا.
وأنَّ لفظ الجلالة (الله) أتى مرفوعًا؛ ممَّا يدل على أنَّه ليس استثناءً منقطعًا؛ بل هو استثناء متصل.
ذلك لأن المستثنى المتصل حسب القاعدة يأتي مرفوعًا.
فقالوا: إذًا اللهُ استثنى نفسه ممَّن في السماء!
وقد ردنا عليهم من قبل: لا حظوا أنَّ اللهَ قال: (من في السموات والأرض) ولم يقل السماء (فقط).
ومن العلماء من ردوا عليهم بقولهم: السبب في أنَّ لفظ الجلالة أتى مرفوعًا، وليس منصوبًا كحال المستثنى المنقطع الذي يأتي دائمًا منصوبًا؛ هو أنَّ لفظ الجلالة (الله) بدل من لفظ (مَن) التي أتت في قول الله – تعالى – : ﴿مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ﴾ فكان ذلك سببًا رفع لفظ الجلالة (الله).
لكن هذا لا أراه السبب في رفع لفظ الجلالة (الله) في الآية، وسأذكر فيما بعد: لماذا لفظ الجلالة (الله) ليس بدل؟
لنتبين الآن مما استثنى اللهُ – تعالى – نفسه في الآية الكريمة: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ﴾.
وما هو سبب رفع لفظ الجلالة (الله)؟
حين نتدبر الآيات يتبين لنا أنَّ الاستثناء في الآية لم يكن استثناءً مُتصلًا؛ لأنَّه لا ينبغي في حق الله – جلا وعلا – أنَّ يقول البعض: إنَّ الله ممَّن في السموات، والأرض!
إذًا لم يتبقَ إلَّا الاستثناء المنقطع..
كذلك لم يكن الاستثناء في الآية استثناءً (منقطع)..
لماذا لم يكن استثناءً منقطعًا؟!
نحن لسنا في حاجة إلى الاستثناء المتصل، أو المنقطع لنتبين دقة الوصف في الآية الكريمة
لماذا؟!
لأنَّ اللهَ – سبحانه وتعالى – استثنى (نفسه) من لفظ (لا يعلمُ)، وليس من لفظ (مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ).
ذلك من بلاغة الآية ودقة ألفاظها التي نتبين منها الحق دون تأويل.
حقًا من في السموات والأرض لا يعلمون الغيب، والذي يعلم الغيب وحده هو اللهُ – عز وجل -.
ذلك هو مراد الله في الآية الكريمة.
لماذا جاء لفظ الجلالة (الله) مرفوعًا؟
لنتبين سبب رفع لفظ الجلالة (الله)؛ نجد أنَّه لم يُرفع لأنَّه بدل (كما نوهت من قبل..) إنَّما سبب رفع لفظ الجلالة (الله) في الآية: ﴿ إِلَّا ٱللَّهُ ﴾؛ هو أنَّ اللهَ – تعالى – هو الفاعل.
لماذا؟
أليس اللهُ هو من يعلم الغيب؟
نعم، إذًا اللهُ فاعل بعلمه الغيب؛ لذلك جاء لفظ الجلالة (اللهُ) مرفوعًا، وليس لأنه مستثنى متصل، أو لأنه بدل.
في النهاية
اللهُ نفى أنَّ من في السموات، والأرض يعلم الغيب، ويأمر رسوله بالرد على من يطلبون منه أن يقول: لهم متى الساعة.
وكذلك يرد على من يقولون: إنَّ ءالهتهم التي يعبدونها من دون الله تعلم الغيب! أو أن الجن، أو الملائكة يعلمون الغيب؛ ثم بيًّن لهم اللهُ – تعالى – أنَّه وحده من يعلم الغيب.
كذلك يتبين لنا؛ أنَّ اللهَ ـ تعالى – لم يستثنِ نفسه من المكان؛ لأنَّ الله هو خالق المكان، وخالق العرش.
فكيف يزعمون أنَّ اللهَ يجلس على العرش بذاته (أي بنفسه) والعرش (ذاته) من المخلوقات؟! سبحانه وتعالى عمَّا يصفون.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ (١٢٩) ﴾ التوبة.
فليتدبروا قول الله – سبحان وتعالى – : ﴿ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيم ﴾.
لأنَّ اللهَ هو خالق العرش لذلك قال اللهُ:﴿ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيم ﴾.
إذًا العرش مخلوق، فكيف يحتاج اللهُ – تعالى – إلى مخلوقاته؟!
اللهُ خلق المخلوقات وهو غني عنهم لأن الله هو الغني الحميد.
والله أعلم