هل ءايات الكتاب ليست هي ءايات القرءان؟

قال الله – تعالى – : ﴿ الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ (١) ﴾ الحجر.

في واحدة من التفاسير التي راجت في السنين الأخيرة؛ قال صاحب التفسير: إنَّ ءايات الكتاب ليست هي ءايات القرءان، وأنَّ الكتاب هدى للمتقين، وليس لكل الناس، مُستشهدًا بالآيات: ﴿ الٓمٓ (١) ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ (٢) ﴾ البقرة.

أما القرءان حسب رأيه: هدى للناس، مُستشهدًا بالآية: ﴿ شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ ﴾ من الآية (١٨٥) البقرة.

وكذلك من قوله: الكتاب يحتوي على الأحكام؛ كالنكاح، والطلاق، والحلال، والحرام (أي أفعل، ولا تفعل).

لذلك يرى أنَّ الكتاب يُخاطب المُتَّقين فقط، وليس كل الناس!

أمَّا القرءان فيراه: هدى للناس جميعًا؛ لأنَّه وحسب قوله: يحتوي كلام الله عن الطبيعة، والأحداث الماضية، وأحداث يوم القيامة..

فالقرءان (كما يرى) لا يحتوي على أي تكليف للناس؛ قائلًا: إنَّ القرءان يحتوي على أنباء الطبيعة، والأحداث، وليس له علاقة بالأحكام..؟!

في البداية: ءايات الكتاب هي ءايات القرءان؛ لا فرق بينهما.

لكن إذا قلنا: إنَّه يُوجد فرق بين الكتاب والقرءان؛ فإنَّ هذا الفرق يتمثل في أنَّ الكتاب ءاياته مكتوبة سواء يتم قراءتها الآن، أو لا.

كيف ذلك؟

حين ننظر إلى المصحف دون أن نقرأ منه؛ فإنَّنا نصفه بلفظ: الكتاب، وليس القرءان؛ لأنَّ ذلك يُعبر عن كونه مكتوبًا، ولا تتم قراءته الآن.

ولكن ماذا حين نقرأ من المصحف؟

أي بماذا نصف الآيات في ذات الوقت الذي يتم قراءتها فيه؟

في حال قراءة الآيات؛ فإنَّها تُوصف بآيات القرءان؛ أي أنَّ لفظ: (القرءان) هو صفة للآيات وقت قراءتها فقط؛ فالقرءان من القراءة، مثل ما أنَّ الكتاب من الكتابة..

وبالتالي: من يصف الكتاب (المصحف) بلفظ: القرءان؛ فقد أخطأ؛ لأنَّ القرءان هو وصف للآيات في لحظة قراءتها فقط.

قال الله – تعالى – : ﴿ الٓمٓ (١) ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ (٢) ﴾ لماذا جاء لفظ الإشارة: (ذلك) وليس: (هذا)؟

ما هي الدقة البيانية في مجئ لفظ: ﴿ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ ﴾ وليس: (هذا الكتاب)؟

لأن لفظ: (ذلك) يُشير إلى كل ما في الكتاب؛ ما نعلمه، وما لا نعلمه؛ لذلك لم يأتِ لفظ: (هذا) لأنه يُشير إلى ما هو معلوم، أو ما ندركه الآن.

ووفقًا لهذا؛ فإنَّ الكتاب لا يكون هدى إلَّا للمتقين؛ أي لا يكون هدى لكل الناس.

لماذا هدى للمتقين، وليس هدى لكل الناس؟!

لأنَّ المتقين لا ينتظرون أن تُقرأ عليهم كل ءايات الكتاب؛ ولا ينتظرون أن يتبينوا كل ما فيه من حق، ودلالات لفظية، ومعجزات بيانية؛ لكي يؤمنوا أنَّه من عند الله.

بل يكفيهم أن يدركوا من الكتاب ما يجعلهم مستيقنين أنَّه كلام الله.

نحن بالفعل لا نصل إلى كل ما في كتاب الله من حق؛ ولا يمكن أن نتبين كل ما فيه من معجزات بيانية.

ولو شكك البعض في ءاياته؛ فإن المؤمن لا يصيبه شك، أو ريب في أنه من عند الله؛ ولو لم يستنبط المراد من كل الآيات المتشابهة.

لذلك: الكتاب هدى للمتقين.

ولماذا الكتاب ليس هدى لكل الناس؛ بينما القرءان هدى للناس؟!

ذلك ما نتبين منه المعجزات البيانية التي في القرءان الكريم حين نتدبره..

إنهما سببان

أولهما: الناس من غير المتقين يريدون أن يُقرأ الكتاب عليهم؛ أي يتحول من ءايات مكتوبة (لا يدرون ما فيها) إلى ءايات مقروءة يمكنهم أن يتدبروها ليتبينوا ما فيها من حق.

فهم ليسوا كالمتقين إذا تبين لهم الحق في ءاية ءامنوا بكل ما في الكتاب من ءايات، دون أن ينتظروا رؤية كل معجزات الكتاب.

كما أنَّ خشوع المتقين حين يُقرأ عليهم كتاب الله يزيدهم إيمانًا.

والسبب الآخر: كتاب الله يحوي ءايات في العلم، ومعجزات بلاغية تُخاطب كل الناس؛ بمن فيهم المتقين الذين يزدادون إيمانًا مع إيمانهم حين يتبينوا ما في كتاب الله من معجزات بيانية وحقائق، وحين يخشعون لربهم.

ومن الناس حين يقرأ، أو يسمع ءايات الله، ويتدبرها؛ يؤمن أنه الحق من ربه؛ لذلك الكتاب هدى للمتقين؛ والقرءان هدى للناس.

وليس كما قيل: إنَّ للكتاب ءايات، وللقرءان ءايات أخرى غير ءايات الكتاب.

ما المراد بلفظ: القرءان؟

القرءان هو صفة للآيات حين يتم قراءتها؛ أي حين تتحول ءايات الكتاب من ءايات مكتوبة إلى ءايات مقروءة؛ نصفها: بالقرءان أو ءايات القرءان (هذا معناه أنَّ ءايات الكتاب تُقرأ في هذا الوقت).

مما سبق: التفريق بين الكتاب، والقرءان يكون بناءً على الحال:

هل أتحدث الآن عن ءايات مكتوبة، أم ءايات يتم قراءتها الآن؟

فإذا كنت أتحدث عن ءايات لا يتم قراءتها الآن؛ فهي: ءايات الكتاب؛ أمَّا إذا كنت أتحدث عن الآيات وقت قراءتها الآن (وقت القول) فهي: ءايات القرءان.

وليس كما قيل: إنَّ ءايات الكتاب، ليست هي ءايات القرءان!

من هنا أستطيع القول: إنَّ الكتاب لا يحوي فقط الآيات التي فيها تكليف للمتقين؛ بل يحوي كل الآيات سواء كانت ءايات تُنبئُنا بخلق

السموات والأرض، وأحداث من الأمم السابقة، وأنباء عن المستقبل في الدنيا، وأنباء عن يوم القيامة.. فكل ما في المصحف هو ءايات الكتاب؛ لأن كل الآيات صفتها أنها مكتوبة؛ ولأنها مكتوبة نصفها بآيات الكتاب.

وحين نقوم بقراءتها نصفها بآيات القرءان.

وهذا يرد بدوره القول: إنَّ القرءان يحتوي فقط على ءايات خلق السموات والأرض، وأنباء عن الأمم السابقة، والمستقبل، ويوم القيامة، ولا يحتوي على الآيات التي تُبين الحرام، وما يفعله المتقين، وما لا يجب فعله.

تلك الرؤية لا تتوافق مع المعنى التالي

القرءان هو وصف لكل الآيات المقروءة؛ أي لكل ءايات الكتاب وقت قراءتها؛ بما في ذلك الآيات التي تأمر المتقين (أفعل، ولا تفعل) لأنَّ كل الآيات المكتوبة هي قرءان لأنَّها تُقرأ، ونعلم أنَّ كل الآيات المقروءة هي ءايات مكتوبة.

وإن لم يقتنعوا؛ فليُجيبوا على هذا التساؤل: بماذا نصف ءايات الكتاب حين يتم قراءتها، وبماذا نصف ءايات القرءان حين تكون مكتوبة (أي لا يتم قراءتها الآن)؟!

مما سبق

معنى قول الله – تعالى – : ﴿ الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ (١) ﴾ الحجر؛ هو أنَّ تلك الآيات المكتوبة تُنسب للكتاب، ومن صفاتها أنَّها قرءان؛ لأنَّها تُقرأ (ولا شك في هذا) .

لقد علمنا أنَّ ءايات الكتاب تُنسب للكتاب، ومن صفاتها كذلك أنها تُقرأ (قرءان) .

فهل الآيات تنسب للقرءان ومن صفاتها أنَّها مكتوبة (كتاب)؟

من دقة كلام الله، وكماله نتبين الإجابة في قول الله – تعالى – : ﴿ طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ (١) ﴾ النمل؛ إنها ءاية أخرى

غير التي تدبرناها؛ تُبين تكامل كتاب الله، وتؤكد المعنى الذي قلناه؛ وهو: إنَّ ءايات الكتاب هي ذاتها ءايات القرءان، وإنَّ ءايات القرءان هي ذاتها ءايات الكتاب.

فقول الله – عز وجل- : ﴿ طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ (١) ﴾ به دقة البيان وكمال القول، الذي كان في الآية الأخرى، وهي: ﴿ الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ (١) ﴾ .

إذًا هما أيتان، وليس ءاية واحدة؛ وكل ءاية لها معنى خاص بها؛ ليتكامل المعنيان؛ لأنَّ كتاب الله لا نقص فيه.

فحين نتدبر الآيتين معًا؛ يتبين لنا دقة كلام الله، وكمال مراده، دون اختلاف بين ءاياته (وذلك هو تفصيل الكتاب) .

في قول الله – تعالى – : ﴿ الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ (١) ﴾ نُسبت الآيات للكتاب..

لماذا نُسبت للكتاب؟

لأنَّها ءايات مكتوبة.

ولماذا تم وصفها بأنها: ﴿ قرءان ﴾؟

لأن تلك الآيات المكتوبة من صفاتها أنها تُقرأ؛ فنحن لا نستطيع أن نعلم ما في الكتاب إلَّا بقراءة ءاياته.

وفي قول الله – تعالى – : ﴿ طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ (١) ﴾ نُسبت الآيات إلى القرءان (لأنَّها تُقرأ الآن) ووصفت بأنَّها كتاب (لأنَّها مكتوبة) .

الله – تعالى – لم يذكر ءاية واحدة؛ ولكن ذكر ءايتين ليُبين لنا أنَّ لكل ءاية معناها، وبالآيتين يكتمل المعنى الكلي.

وبالتالي: ليس المعنى مثل ما قيل: إنَّ للكتاب ءيات، وللقرءان ءايات أخرى؛ بل ءايت الكتاب هي ذاتها ءايات القرءان، والفرق بينهما في صفة المكتوب، والمقروء.

إنَّ الكتاب هو الشئ المكتوب (مكتوب بالحروف في صحف؛ أو مكتوب في الصدور؛ أمَّا القرءان فهو قراءة كتاب الله).

وفي النهاية

من الأدلة التي أراها قاطعة في إثبات خطأ من قالوا: إنَّ للكتاب ءايات غير ءايات القرءان؛ هي الإجابة على هذا التساؤل:

حين نتدبر؛ هل نتدبر الكتاب؛ أم القرءان؟

قد يبدو التساؤل غير متوقع؛ أو لم يكن في الحسبان، ولكن هذا يؤكد أنَّ كتاب الله؛ متكامل يُبين بعضه بعضًا، وأنَّ ءايات الله هي خير من يفسر بعضها في توافق بالغ الدقة؛ لا يمكن للجن والإنس أن يأتوا بمثله.

قال الله – تعالى – : ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ (٢٤) ﴾ محمد.

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا (٨٢) ﴾ النساء؛ لم يقل ـ سبحانه وتعالى ـ : (أفلا يتدبرون الكتاب) وذلك من دقة كلام الله التي لا نُدركها إلًا بتدبر ءايته.

فلو كانت ءايت الكتاب ليست هي ءايات القرءان (حسب ظن البعض) فهل يُعقل أنَّ الله أمرنا بتدبر القرءان، ولا يأمرنا بتدبر الكتاب؟!

من دقة كلام الله وإحكامه لآياته؛ حين جاء لفظ التدبر مع الكتاب ﴿ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (٢٩) ﴾ ص؛ نجد أنَّ لفظ: ﴿ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ﴾ عاد على لفظ: ﴿ ءايته ﴾ وليس على الكتاب (مباشرة).

لفظ: (الكتاب) ليس هو لفظ: (ءايات الكتاب) لماذا؟

لأن القول الأول يتحدث عن الكتاب، والقول الآخر يتحدث عن ءايات الكتاب (المعنى مُختلف) .

لهذا ومن بلاغة البيان في القرءان؛ لم يقل – سبحانه وتعالى – : (ليدبروه) أو (ليدبروا الكتاب) ولكن قال: ﴿ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ﴾.

لماذا جاء لفظ: ﴿ءَايَٰتِهِۦ﴾ بعد ﴿ كِتَٰبٌ ﴾؟

لأنه لا يمكن تدبر الكلام المكتوب إلَّا بقراءته (أي تحويله إلى قول).

ويتأكد لنا هذا المعنى حين نتدبر قول الله – تعالى – : ﴿ أَفَلَمۡ يَدَّبَّرُواْ ٱلۡقَوۡلَ أَمۡ جَآءَهُم مَّا لَمۡ يَأۡتِ ءَابَآءَهُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ (٦٨) ﴾ المؤمنون؛ فالذي يتم تدبره هو القول؛ وهذا يعني أنَّ الكلام المكتوب لا يصل إلى الفؤاد إلَّا بعد أن يتحول إلى قول.

لهذا لا يمكننا تدبر كلام الله المكتوب إلَّا بعد أن يتحول إلى قول (قرءان) لكي يُدركه الفؤاد.

فنخن نتدبر القرءان، أو الآيات التي نقرأها، وليس الكتاب.

الآيات هي صفة لكلام الله المكتوب؛ وحين تكون مكتوبة (لا يتم قراءتها الآن) تُوصف بآيات الكتاب.

وهي كذلك (أي الآيات) صفة لكلام الله حين يتم قراءتها؛ حيث تُوصف: (بآيات القرءان) .

ولأنَّ من ءايات الله ما هو حسي، مثل: ناقة سيدنا صالح، و عصى سيدنا موسى.

كذلك هناك ءايات معحزة تُقرأ فقط، ونتبيَّن منها معجزات الله – تعالى – في خلقه وبيان كتابه.

﴿ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ ﴾ أشار لفظ: (تلك) إلى الآيات، وليس إلى القرءان (مباشرة) .

لأن القرءان صفة للآيات لحظة قراءتها؛ أي هي الآيات التي قُرئت أو تُقرأ الآن، أو التي من صفاتها أنَّها تُقرأ في المستقبل.

لأنَّه يستحيل أن يتم الإشارة بلفظ إشارة بعيد، مثل لفظ: (ذلك) إلى القرءان مباشرة؛ أي لا يمكن يأتي القول: (ذلك القرءان) وهذا دليل على أنَّ القرءان هو صفة للآيات حين يتم قراءتها أي حين تكون مدركة بالقرءاة.

وهذا ما بينته في الأعلى؛ لأنَّ القرءان هو صفة لقراءة الآية وقت قراءتها، أو حين سماعها.

و لأن لفظ: (هذا) يُشير إلى ما هو مُدرك الآن؛ ولأن القرءان هو وصف لقراءة الآيات الآن أقول: هذا القرءان، وليس ذلك القرءان.

والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart