واحدة من الروايات التي تنتشر بين من يطعنون في رسالة سيدنا محمد، ويشككون الناس في الإسلام، الرواية التي جاء فيها: إنَّ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مات من أثر السُّم الذي وُضع له في شاه!
ولأنَّ الرواية جاءت بعدة أقوال مُختلفة؛ فإنَّني أنقل المعنى العام، وهو: قيل: إنَّ امرأة يهودية وضعت السُّم للنبي في شاه، فأخبرته الشاه – بعد أن أكل منها، وأكل منها كذلك بعض أصحابه – وقالت له: أنها مسمومة.. وحين علم أنَّ امرأة يهودية هي من فعلت هذا.
سأل النبي – عليه الصلاة والسلام – المرأة عن سبب فعلها؛ قالت: لو كنت كاذبًا نستريح منك، ولو كنت نبيًا لن يُضرك السم شيئًا..
ثم قالوا: بعد ثلاث سنين مات النبي مُتأثرًا بالسُّم الذي وُضع له في الشاه!
وهذا أحدث انتقادات ممن يزعمون بأن سيدنا محمد ليس نبيًا؛ لماذا؟!
لأنهم قالوا: حسب الرواية لو تسبب السم في موته؛ فإن هذا سيوافق قول المرأة اليهودية التي قالت: لو كنت كاذبًا (ليس نبيًا) ستموت من السم!
هل تم وضع تلك الرواية لتشكيك الناس في رسالة سيدنا محمد؟!
وما هي الفائد التي ستعود على الإسلام، وعلى الأمة الإسلامية من تلك الرواية؟!
بل وما هي الفائدة التي ستعود على الناس الذين يبحثون عن صدق سيدنا محمد في أنه نبي؟!
الروايات ظنية، منها الصحيح، ومنها الضعيف..
وتلك الرواية تضر حقًا بالرسالة، ولا نجد لها نفعًا أبدًا!
تُخالف ءايات القرءان، الذي هو خير ما نستدل به على الحق؛ وبالتالي: هو خير ما نستدل به على الرواية، إن كانت حقًا، أو غير حق.
نعلم أنَّ الروايات ظنية، لكن القرءان: ﴿ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ (٤٢) ﴾ فصلت.
قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ من الآية (٦٧) المائدة؛ يعني: أنَّ الله حفظ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أن يُصيبه أي ضرر كالقتل، أو الموت بأثر السم لأنه من فعل الإنسان، والله أنبأ النبي أنه يعصمه من الناس، وأنهم لا يضروه شيئًا.
لكن الله لم يعصم النبي من الأذى (المعنوي).
وهل من فرق بين: الضرر، والأذى؟
نعم، وذلك من دقة القرءان وبلاغته؛ ويُمكن أن نتبيَّن ذلك من خلال الآيات:
قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا (٥٧) ﴾ الأحزاب؛ اللهُ أثبت وقوع الأذى في حقه ـ سبحانه وتعالى ـ وفي حق رسوله..
ذلك لأنَّ الأذى لا يكون إلَّا بالقول؛ والدليل على ذلك من الناس من يسبون ويسخرون من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ منهم من وصفه بأنه ساحر، شاعر، وأنَّ الله لم يرسله للناس!
بل ومن الأذى في حق الرسول من يفترون عليه بالكذب وينسبون له ما يخالف ءايات الله!
إذًا عصمة الله للنبي لم تكن ضد الأذى ـ بالقول ـ ولكن كانت العصمة ضد الضرر؛ الذي لا يكون إلَّا ماديًا كقتله من قبل البشر حتى ولو كان ذلك القتل بأثر سم تم وضعه له الشاه مثل ما يزعمون!
وإلا ما المراد من قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖ ﴾ من الآية (١١٣) النساء؛ وما بلاغة النفي بلفظ (ما) الذي ينفي في كل الأزمنة إصابة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأي ضرر من قبل الناس؟!
كيف يتوافق كلام الله الذي يبين أنه عصم النبي من الناس وأنهم لا يضروه شيئًا مع رواية ظنية تقول: إنَّ الناس تمكنوا من قتل الرسول بالسم؟!
أيهما الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟!
أيهما نصدق؟! أليس بكلام الله قول الحق؟!
من بلاغة كلام الله – سبحانه وتعالى – أنه لم يقل: لم يضرونك، أو: لن يضرونك؛ بل قال: ﴿ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖ ﴾.
ذلك أراه من دقة الألفاظ في القرءان وبلاغة البيان التي نستنبط منها الحق.
إنه نفي لكل الأزمنة في حياة النبي – عليه الصلاة والسلام – مما يعني أنهم لم يتمكنوا من إصابته بأي ضرر.
بعد تدبر ءايات القرءان تبيَّن: أنَّه لم يستطع أحد من الناس أن يضر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذا بدوره ينفي موت النبي بأثر سُّم وضع له في شاه؛ والقول بضد ذلك يُخالف قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، ويخالف قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖ ﴾.
قال اللهُ – عز وجل – : ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ (١٤٤) ﴾ آل عمران.
من الناس من قال: الآية لم تستبعد أن يتم قتل النبي!
قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ (١٤٤) ﴾ لا يختلف مع ما بيناه من قبل: لم يتمكن إنسان من قتل النبي (متعمدًا).
في البداية علينا أن نفرق بين القتل العمد بوضع سم في شاه لقتله، وبين القتل الخطأ (غير المتعمد).
الآية الكريمة لم تقل: قتل ولكن استخدمت أسلوب الشك(إن).
كذلك وضعت الآية احتمالين – وهما لكل إنسان – : إما القتل – ولو كان بالخطأ – وإما الموت (الطبيعي).
لفظ: (أو) يُفيد أحد الاحتمالين: الموت، أو القتل، وليس كلاهما.
ولفظ: (إن) يُفيد الشك، أو عدم اليقين؛ ذلك حين يُنسب إلى علم الناس؛ لأنَّ الناس لا يعلمون إن كان النبي سيموت، أو يُقتل.
أما في علم الله؛ فإنَّ الله – عالم الغيب والشهادة – قدر: إن كان النبي سيموت، أو يُقتل.
وماذا لو قُتيل؟
نقول لهم: وهل قتيل تعني بالضرورة قتله إنسان وهل لو قتيل عن طريق إنسان هذا يعني أنه قتله متعمدًا؟!
بالتأكيد لا..
لذلك ما نستنبطه من قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِل ﴾؛ لا يعني أنَّ النبي سيُقتل؛ ولو قُتل؛ فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ الناس هم من قتلوه، ولو قُتل بأحد الناس؛ فإن ذلك لا يعني أنه قُتل بشكل متعمد؛ لأن القتل له احتمالان: إما قتل متعمد، وإما قتل بالخطأ (غير متعمد).
وبالعودة الآية لنستنبط ما بها من بلاغة:
فعل القتل – في الآية – جاء مبني للمجهول؛ ولم يُنسب القتل ـ إن حدث ـ للناس (سواء كان بتعمد، أو بدون تعمد).
وماذا لو قُتل النبي؟
سيكون مقتله مقتلًا طبيعيًا في حادث
لن يكون من تدبير البشر.
لماذا؟
لأنَّ الله عصمه من الناس إذا أرادوا قتله، فالمشركون حاولوا قتل النبي – عليه الصلاة والسلام – بالفعل، ولكن الله تعالى لم يمكنهم من ذلك – وأنبأه: أنَّهم لن يضروه من شئ؛ فيستحيل لو قُتيل أن يكون بفعل الناس.
إذًا ليس بين قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِل ﴾؛ وبين قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، ﴿ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖ ﴾؛ أي اختلاف.
قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤۡمِنُونَ (٦) ﴾ الجاثية.