والآن سأذكر بعض الآيات التي يستشهد بها البعض حين يحاولون أن يُثبتوا للناس؛ أنَّ النبيّن يُمكن أن يعصوا الله متعمدين فعل الخطأ !
ويقولون: لكن الله عصمهم ـ منعهم ـ من فعل الكبائر حتى إن أراد النبي فعلها ! هل تدرون معنى قولهم هذا ؟!
معناه: أنَّ النبي يعلم ـ ولم ينسَ ـ أنَّ ذلك الشئ قد نهى اللهُ تعالى عن فعله، وإن فعله متعمدًا سيغضب الله؛ ثمَّ يُصر على فعله لكن الله يمنعه ! هذا لا ينبغي في حق من هم خير البشر.
فهؤلاء لو أدركوا الفرق بين: الذنب، والخطأ، والمعصية؛ لأدركوا أنَّ النبيّن لا يعصون الله ليس لأنَّ الله يمنعهم من المعصية؛ فالله لا يظلم أحدًا ممن فعلوا المعاصي من غير النبيَّن؛ ولكن لأنَّهم أشد الناس تقوة لله. فهم ليسوا أقل من الصالحين الَّذين لم يصطفِهم الله للنبوة ورسالاته؛ لم يفعلوا الكبائر لشدة خشيتهم لربهم، ولا شك أنَّهم لم يبلغوا درجة التقوى التي بلغها النبي؛ لأنَّ النبيّن ـ بلا شك ـ هم خير من في عباد الله الصالحين.
سنتبيَّن الآيات التي استدلوا بها على إمكانية معصية النبيّن للخالق؛ لنستيقن أنَّها لا تعني المعصية أبدًا.
قال الله تعالى: (( وَدَخَلَ ٱلۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَٱسۡتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي فَٱغۡفِرۡ لِي فَغَفَرَ لَهُۥٓۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (16) )) سورة القصص. سيدنا موسى يعلم أنَّ الله ـ تعالى ـ قد حرَّم قتل النفس إلَّا بالحق؛ وفي الآية يتيبَّن لنا أنَّ سيدنا موسى لم يتعمد قتل النفس التي حرَّم اللهُ؛ ولكن حين وكز الرجلَ قتله ( دون تعمد القتل، أو فعل المعصية، أو تعمد مُخالفة أمر الله وسنته ).
إنَّ ما حدث من سيدنا موسى، هو: ( القتل الخطأ )؛ فأين عنصر التعمد في ما حدث ليجعله معصية ؟! ولأنَّ سيدنا موسى قتل نفسًا بما يُخالف سنة الله؛ استغفر ربه على أنَّه خالف سنة الخالق ( ولو بالخطأ دون تعمد ).
قال الله ـ تعالى ـ : (( قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩ (24) )) سورة ص. نعم سيدنا داود شعر أنَّه أخطأ؛ ولكن كما يتبيَّن لنا: كان خطأً في تقديره للأمر، وليس خطأً مُتعمدًا بنية الظلم، أو مُخالفة سنة الله؛ لذلك ما فعله سيدنا داود لم يكن معصية. إذًا لِمَ استغفر ربه، وهو لم يتعمد فعل الخطأ ؟!
مع أنَّه لم يتعمد مُخالفة أمر الله استغفر ربه لشعوره أنَّه تسرع في قوله: (( قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ ))؛ وصف الطرف الآخر: بأنَّه ظالم، قبل أن يستمع إليه، ليتبيَّن منه ما حدث؛ فظن سيدنا داود أنَّ الله فتنه ـ اختبره ـ ليتعلم من هذا الحدث، ونتعلم نحن من ءايات الله ـ تعالى ـ في ألَّا نتسرع في الحكم على الأمور قبل أن نتبيَّن الحق.
وحين استغفر ربه كان اعترافًا من سيدنا داود بالخطأ في حق من انتقدهم دون أن يستمع إليهم؛ بل وبالخطأ في حق الله ـ تعالى ـ لأنَّ ذلك خالف سنة الله ( حتى ولو كان دون تعمد ).
النبيّون بشر وهم أشد الناس خشية لله ـ تعالى ـ لا يقعون في الذنوب متعمدين؛ فهم ليسوا أقل من الصالحين في خشيتهم لله.
وسنتبيَّن ـ إن شاء الله ـ في بحث ءاخر؛ المراد: بالذنب؛ لكي يكتمل المعنى حين نقارن بين: الخطأ الَّذي ليس هو بمعصية ( خطأ غير متعمد )، والمعصية ( الخطأ المتعمد ) ولِمَ نستغفر في كليهما.
والله أعلم.