إنَّ المنام يحدث للنفس؛ لراحة الجسم، وتجديد الرغبة، والإرادة في الحياة، والعمل..
وهذا يتطلب أن ينقطع إحساس النفس في منامها وهي في حالة الوفاة عما هو مادي من حول الجسم.
ولكن يكون ذلك بدرجة معينة لو تم تجاوزها تسترد النفس الإحساس بالمؤثرات التي تضغط على الجسم فيستيقظ الإنسان.
لماذا يتسبب ذلك في إرسال النفس للجسم وهي في المنام؟
من أسباب إرسال النفس للجسم من جديد أن تسترد الإحساس بالجسم للحفاظ عليه في حال وجود شئ قد يضره؛ فيستيقظ الإنسان من منامه.
أو لكي يستيقظ الإنسان حين يتم النداء عليه.
وماذا عن الشعور في المنام؟
الشعور ينقطع عن النفس بشكل تام عما يحدث في الحياة الدنيا.
أي أنَّ الإنسان لا يشعر بما يحدث من حوله في الحياة الدنيا، وهو في المنام.
ولكن تبقى مشاعر أخرى للنفس في منامها، وهي: التي تجعلها تشعر بما في أحلامها.
لأن النفس في منامها تكون في حالة وفاة، وليست موتًا؛ لذلك جعل اللهُ للنفس التي توفاها في منامها شعورًا يُناسب منامها.
وللإجابة على التساؤل: هل يُوجد فرق بين: الوفاة، والموت؟
أذكر قول الله – تعالى – : ﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) ﴾ الزمر.
فهذه الآية فارقة (بشكل تام) في الفصل بين الوفاة، والموت..
لقد ذَكرت الآية الكريمة اللفظين: الوفاة، والموت؛ وهذا دليل على اختلافها.
ماذا نتبين من الآية؟
لقد بينت الآية الكريمة أنَّ الوفاة تحدث كذلك للنفس التي في منامها وليست حين موتها فقط.
المنام يحدث فيه وفاة للنفس، وراحة للجسم، فينقطع الإحساس بالحياة الدنيا لدرجة معينة، وكذلك تنقطع مشاعر النفس بما حولها في الحياة الدنيا (أي تنقطع عنها مشاعر اليقظة).
مما خرج لفظ: (الوفاة)؟
الوفاة من استوفى، أي الذي استوفى عمله، أو أجله في الحياة الدنيا.
ولأن النفس استوفت ما قدره اللهُ لها من عمل؛ يتوفاها ربها في منامها الذي لم يُقدر لها فيه فعل الخير، أو الشر.
لذلك لا تكون النفس في منامها مكلفة، ولا تُحاسب على أحلامها لا بالخير، ولا بالشر.
وكذلك يتوفاها ربها حين الموت، بعد أن تكون النفس قد استوفت أعمالها في الحياة الدنيا بشكل تام؛ فلا تعود للجسم إلَّا حين البعث (يوم القيامة).
على أي شئ تدل وفاة النفس؟
إنَّ وفاة النفس هي دليل على توقف إحساس النفس بالجسم، والمؤثرات المادية التي في الحياة المادية بشكل تام، وكذلك يحدث في وفاة النفس توقف شعورها بما في الحياة الدنيا.
وماذا عن وفاة النفس حين موتها؟
إنه ذات الشئ؛ حيث يتوقف إحساسها، وشعورها بشكل تام بما يحدث في الحياة الدنيا.
ولكن يبقى شعورها بسكرة الموت، ورؤيتها الملائكة بعد أن غادرت النفس الحياة الدنيا برؤيتها الملائكة؛ إنها سكرة الموت.
وماذا عن الإحساس حين الموت؟
إنه أحساس النفس بسكرة الموت بوجود الملائكة، وخروج النفس من الجسم بالموت.
إذًا وفاة النفس سواء في المنام، أو حين الموت تعني توقف الإدراك، والشعور بالحياة الدنيا تمامًا؛ وبالتالي: غياب الوعي بالحياة الدنيا، وكل ما يحدث فيها.
ولكن بعد الموت تنشأ مشاعر تجعل من في القبور يشعرون بأنهم لبثوا يومًا، أو بعض يوم.
ومن الأشياء التي نستنبطها
النفس هي من تحس، وليس الجسم، (وقد تم ذِكر ذلك في موضوع ءاخر).
فمن الناس من يظن أنَّ الجسم هو من يحس، وليس النفس!
حيث يقول: بما أنَّ التأثير المادي يكون على الجسم؛ إذًا الجسم هو من يحس، وليس النفس!
لكن ذلك لا يتوافق مع ءايات القرءان، ولا مع العقل..
فالذي يُعذب يوم القيامة هو: النفس، وليس الجسم؛ لأن النفس هي من اختارت، واشتهت، واستمتعت بأشكال المؤثرات.
أما الجسم فيقتصر دوره على نقل المؤثرات، وشكلها للنفس لتحس بها؛ فتتألم، أو تستمتع.
ومن الأدلة على أنَّ النفس هي من تحس، وليس الجسم؛ يوم القيامة تقوم الجلود بنقل تأثير النار، وما فيها من أشكال العذاب للنفس الخبيثة لتحس بذلك العذاب.
هل من دليل على ذلك من القرءان؟
ما نتبينه من قول الحق: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (٥٦) ﴾ النساء.
إذًا دور الجلود هو: نقل تأثير النار (شكل عذابها) ومُؤثرات أخرى (أشكال أخرى من العذاب) عبر الجلود للنفس لتحس بالعذاب.
وكما يتبين لنا الجلود (وهي من الجسم) تنضج، وتتبدل، لكن النفس (الخبيثة) التي تُعذب لا تغيب، ولا تتبدل.
وفي الجنة تستمتع النفس الطيبة بالنعيم، فالنفس هي التي ترغب، وهي التي تُريد، وتشتهي، وليس الجسم من يستمتع.
إنما يقتصر دور الجسم على نقل أشكال المؤثرات للنفس لتستمتع النفس بتلك المؤثرات ﴿ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) ﴾ الأنبياء.
وحسب العلم
الجسم يقتصر دوره على نقل التأثير المادي عبر الأعصاب إلى المخ؛ فتحس النفس بتلك المُؤثرات المادية، وتميز أشكالها من ألم، أو متعة، ولذة..
النفس هي من تتألم، وهي من تستمتع، وليس الجسم..
ومن الأدلة الأخرى على أنَّ النفس هي من تحس بالمُؤثرات المادية؛ في منامها؛ أنها لا تحس بالمُؤثرات التي تضغط على الجسم.
إلَّا إذا زادت تلك المُؤثرات عن المسموح به بشكل يُهدد سلامة الحسم، فتسترد النفس الإحساس ليستيقظ الإنسان حفاظًا على نفسه.
من امثلة ذلك: صوت مرتفع، أو مُؤثر داخلي؛ كالألم (بدرجة معينة) أو مُؤثر خارجي فيه خطورة على الجسم؛ وبالتالي: على النفس التي لا تبقى، بدون الجسم.
حينها تُرسل النفس من جديد للجسم؛ لتحس بتلك المؤثرات لئلا يهلك الجسم فتموت النفس التي لا تبقى بدونه.
ومن من الأشياء الأخرى التي تُرسل فيها النفس للجسم، وتسترد الإحساس بالمُؤثرات المادية؛ هو أن يستجيب الإنسان للصوت الذي ينادي عليه لكي يسيقظ.
هذا يتطلب وجود النفس في الجسم لتحس بتلك الأصوات.
لذلك جعل اللهُ – تعالى – النفس تستجيب للمؤثرات المادية التي تضغط على الجسم بدرجة معينة، وتميز أشكالها؛ حينها تُرسل النفس للجسم من جديد فيستيقظ الإنسان.
مما سبق نستنبط التالي
الجسم هو من يستقبل المؤثرات المادية فيرسلها للنفس لتحس بها، وتميز أشكالها.
وماذا عن الشعور بالمعنويات حين تكون النفس في منامها؟
الشعور ليس كالإحساس الذي ينشأ من خلال تأثير المادة على النفس بضغطها على جوارح الجسم؛ بل مركزه هو النفس (ذاتها) وهذا يُفسر لنا لماذا تشعر النفس في منامها.
ما هو المراد بأن النفس تشعر في منامها؟
كما قلنا النفس لا تحس بالجسم، أو بما يضغط عليه من مُؤثرات مادية إلَّا إذا تجاوز ضغط تلك المُؤثرات على الجسم؛ درجة مُعينة ليستيقظ عندها الإنسان.
لكن ذلك لا ينطبق على الشعور.
لماذا لا ينطبق على الشعور؟
لسببين:
الإنسان في المنام لا توقظه المشاعر التي تتعلق بما يحدث حوله في الحياة الدنيا؛ لأنه ليس هناك ما يجعل تلك المشاعر تنشأ في النفس.
أما الإحساس الذي تحس به النفس؛ فهو يرتبط بقوة المُؤثرات المادية التي تضغط على الجسم (الموجود بالفعل لأنه مادي لا يختفي) بدرجة مُعينة تُرسل بسببها النفسَ للجسم؛ ليستيقظ الإنسان من المنام.
إذًا الذي يوقظ الإنسان هو الإحساس لأنه يرتبط بالجسم الذي يتعرض للمُؤثرات المادية من حوله، أو بداخله، وليست المشاعر التي ترتبط ما يحدث حوله في الحياة الدنيا هي من توقظ الإنسان.
لماذا؟
لأن المشاعر اليقظة تنشأ في النفس حين تكون النفس في الجسم.
وماذا عن مشاعر النفس في المنام؟
حين تكون النفس في المنام يتوقف تمامًا شعورها بما يحدث في الحياة الدنيا (كما بينا ذلك) ولكن لا يتوقف شعور النفس بما يحدث في أحلامها.
الأحلام تُجسد شعورًا فقط، وليس شعورًا وإحساسًا؛ لأن الأحلام ليست مادية.
إذًا الشعور لا يتوقف تمامًا في المنام؛ لأنه ليس كالإحساس الذي يأتي فقط من خلال الجسم المادي، ومُؤثرات مادية.
هل المُؤثرات المادية يُمكن أن تكون سببًا في نشأة المشاعر في النفس؟
نعم، في اليقظة تحدث مُؤثرات مادية على الجسم تُؤدي إلى أن ينشأ بسببها شعورًا داخل النفس، مثل: مؤثرات مادية تجعل النفس تشعر بالخوف بسبب أحداث مادية لا يتمناها الإنسان، أو تشعر بالطمأنينة، والسعادة بسبب أحداث مادية مُحببة للنفس.
مثلًا: طفل يخشى التطعيم بواسطة الحقن؛ ذلك تأثير مادي جعله يشعر بالخوف ( تأثير مادي أثر على مشاعر النفس).
أو حين يذهب في رحلة؛ ذلك تأثير مادي جعله يشعر بالسعادة.
يستمتع ماديًا فكان ذلك سببًا لينشأ في نفسه الشعور بالسعادة.
الشعور يكمن في النفس، والنفس في منامها لا ينقطع عنها الشعور تمامًا ( كما بينا) إلَّا بما يحدث في الحياة الدنيا.
إنَّ ما يتوقف من الشعور عند وفاة النفس في منامها، أو حين الموت هو الجزء الخاص بالحياة الدنيا.
وماذا عن الإحساس بعد موت النفس؟
خروج النفس من الجسم بالموت، وتحول الجسم لبدن؛ يجعل الإحساس لم يعد له مركز يوصله للنفس؛ لأن الجسم الذي كان ينبض بالحياة تحول لبدن لا حياة فيه.
والبدن لا يتأثر بأي مؤثر سواء داخلي، أو خارجي مهما كانت شدته.
هذا هو الفارق بين وفاة النفس في المنام، وحين الموت، وبين موتها.
وهذا من الأمور التي تُؤكد أنَّ الإنسان حين الموت لا يحس أبدًا بالحياة المادية، ولا يشعر بم هم في الحياة الدنيا ولو بدا أنهم ينظر إليهم.
فهو لا يراهم، لا يسمعهم، لا يحس بهم، ولا يشعر؛ لأنه في سكرة الموت أغشي عليه من الموت فلا يحس، ولا يشعر بالحياة الدنيا تمامًا.
ما الدليل على أنَّ النفس لا تحس، أو تشعر بمن في الحياة الدنيا حين الموت؟
لقد وصف اللهُ ذلك بدقة بالغة: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) ﴾ ق.
الإنسان حين الموت هو في سكرة الموت يُغشى عليه من الموت الذي جاءه؛ فلا يشعر، ولا يحس بمن حوله في الحياة الدنيا أبدًا.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (٢٠) ﴾ محمد.
هم ظاهريًا ينظرون إلى النبي- عليه الصلاة والسلام – ولكن فعليًا صُرفت أنظارهم مما سمعوه، وكأنهم أغشي عليهم من الموت.
فهل المغشي عليه يرى، أو يسمع، أو يحس، أو يشعر بمن حوله؟!
بالتأكيد لا؛ ذلك من دقة البيان في القرءان.
بعد الموت يمتد انقطاع الإحساس لزوال الجسم، وموت النفس، وينقطع شعورها بالحياة الدنيا تمامًا.
ذلك حتى يُبعث يوم القيامة؛ لأنه فقد مركز الشعور وهو النفس (الإنسان بعد الموت انقطع عنه الإحساس بالحياة الدنيا تمامًا).
فالميت ليس كالحي؛ ومن الأدلة على ذلك قول الله – تعالى – : ﴿ وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ (٢٢) ﴾ فاطر.
لفظ: (ما) ينفي بشكل كامل، في كل الأزمنة أنَّ الأموات يستوون مع الأحياء.
ومن أمثلة ذلك أنهم لا يسمعون.
لقد انقطعت صلتهم بمؤثرات الحياة الدنيا؛ وبالتالي: انقطع عنهم الإحساس، والشعور بها، وبما فيها بشكل تام.
وعن ألفاظ (الوفاة) نجد منها ألفاظ مثل: (وفى، يوفى..).
أي يُصبح ملك لله تمامًا بعد أن قضت النفس أجلها الذي قدره اللهُ لها في وقت يقظتها في الحياة الدنيا.
وبالتالي: لا تُكلف النفس في المنام، ولا تكليف لها بعد أن أدركها الموت لأنها وفت أجلها في الحياة الدنيا.
إنَّ الوفاة تعني أنه لا ينبغي لنفس أن تقول: إنَّني لو كنت يقظة في أوقات منامي لربما فعلت الخير!
أو تقول لو مُدَّ في أجلي لربما ءامنت وأصلحت!
قال اللهُ – سبحانه وتعالى – : ﴿ أَوۡ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلۡعَذَابَ لَوۡ أَنَّ لِي كَرَّةٗ فَأَكُونَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (٥٨) بَلَىٰ قَدۡ جَآءَتۡكَ ءَايَٰتِي فَكَذَّبۡتَ بِهَا وَٱسۡتَكۡبَرۡتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (٥٩) ﴾ الزمر.
لكن وفاة النفس في منامها، أو حين الموت معناه أنَّ تلك النفس استوفت نصيبها في الحياة الدنيا (في ذلك الوقت الذي تُوفيت فيه)، ولم يعد أمامها فرصة لكي تكون أفضل.
ولو رُدت، وعاشت حياة أبدية؛ لن تؤمن، ولن تُصلح.
لذلك بعد أن استوفت النفس أجلها؛ لم يعد لديها حجة على الله يوم القيامة؛ لأنَّها أصبحت ملك لله وحده، فلم يعد لها اختيار، أو أمنيات تُطاع.
وأخيرًا يتبين لنا أنَّ الوفاة هي: تحدث من المنام، وتحدث حين الموت؛ وأنَّ الوفاة معناها أنَّ النفس استوفت أجلها سواء في المنام، أوحين الموت، فتعود إلى ربها – تعالى -.
أما الموت فهو أنَّ النفس لا تُرسل إلَّا يوم البعث.
والله أعلم.