وكأنَّ الخالق عندهم لا بد من أن يُدركه البصر كالمخلوقات لئلا يكون عدمًا؟!
لقد تشابه قولهم مع ما نُسب للتوراة: إنَّ الله خلق ءادم على صورته؛ ويُصرون على أنَّه خُلق على صورة الرحمن ليجعلوا لله صورة يُدركها البصر تشبه صورة سيدنا ءادم؟!
بل وزعموا أنَّ الله يجلس على العرش، ويقوم، ويمشي، وينزل إلى السماء الدنيا، ويضع قدمه في النار، ويكشف عن ساقه يوم القيامة؟!
وبعد ذلك يقولون: إنهم لا يشبهون الله بخلقه؟!
كيف والحق يقول: ﴿ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ﴾ من الآية (١١) الشورى.
وقد بينت من قبل: أنَّ ما لله من صفات هي حق، وليست مجازًا، ولكن ليس كما يُريد أهل التجسيم والتشبيه الذين جعلوا لله يدين لهما أصابع كما للبشر!
ومِمَّا ذكرته من قبل لنفي التشبيه، والتجسيم، والمجاز؛ قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ ﴾ من الآية (٦٤) المائدة؛ فقلتُ: إنَّ لفظ: (يداه) الذي جاء في الآية الكريمة؛
لا يعني يدان لهما أصابع، وكذلك لا يعني المجاز؛ بل هو قول حق، نتبينه من تدبر القرءان لندرك دلالة لفظ: (اليد) في كتاب الله.
ما هي اليد؟
إنَّ المسمى الأصل لليد هو: الاستطاعة التي تُنفذ بها الإرادة.. ثم أُطلقت على يد الإنسان التي هي جزء من جسمه نسبة إلى القدرة والاستطاعة.
وبما أنَّ الاستطاعة هي أصل لفظ اليد، ولا تعني فقط يدًا لها أصابع (جزء من الجسم)؛ فإن المراد بيد الله هي: الاستطاعة التي تُنفذ بها إرادة الله في خلقه ـ دون زمن يمر على الله ـ
ولكن منهم من قال: لو كان المراد من اليد هو يد تعبر عن القدرة والاستطاعة، وليس يدًا لها أصابع؛ فلماذا جاءت مثنى (يداه)؟!
فظنوا أنَّ ذلك يُثبت صحة قولهم بأنَّ لله يدان، ولكل يد منهما أصابع تليق بجلاله؟!
نقول لهم: تدبروا القرءان لتستنبطوا المراد (بيداه)، ولا تقفوا عند ظاهر القول.
حين جاءت بالمثنى: (يداه) دلَّ ذلك على إحكام الله لآياته، وكمال كلام الله – عز وجل -.
شاء الله أن تتحقق إرادته في خلقه
إمَّا مباشرة؛ أي دون وسيط ـ وتلك يد ـ وإمَّا بطريقة غير مباشرة؛ أي من خلال وسيط كالملائكة ـ وتلك اليد الأخرى ـ أو تتحقق إرادة الله بكلتا اليدين، ولا شئ ثالث.
إذًا قول الله – تعالى – : ﴿ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ ﴾ ليس وصفًا مجازيًا؛ بل حق لأنه أراد به قدرته التي تنفذ إرادته دون وسيط، وقدرته التي تنفذ إرادته من خلال المخلوقات كالملائكة.
وفي ذات الوقت لا يجعل لله يدين لهما أصابع كما هما للبشر.
كذلك من يُجسمون الله – تعالى – ويُصرون أنه يُدرك بالأبصار؟!
يُخالفون ما نتبيَّنه بوضوح من القرءان في سورة الأنعام:
﴿ لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (١٠٣) ﴾.
اللهُ ينفي نفيًا قاطعًا أن تُدركه الأبصار؛ ثم يأتي من يقول: ستدركه الأبصار يوم القيامة؟!
كل إنسان عليه أن يُبصر الحق من كتاب الله، وليس من خارجه: ﴿ قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ (١٠٤) ﴾.
و مزيدًا من التنبيه والتحذير لئلا يُخالفوا القرءان، وليستيقنوا أنَّ الحق هو ما في كتاب الله؛ قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ (١٠٥) ﴾ الله يُصرفُ الآيات، ويُبيِّن الحق من القرءان لمن درس ءاياته لأنها الحق من عند الله.
ولأنَّ الجدال لا ينتهي بين الناس؛ أمر اللهُ النبي بقوله: ﴿ ٱتَّبِعۡ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (١٠٦) ﴾، و هو أمر لكل من ءامن بالله: أن يتبع ما أوحي من الله، ويُعرض عن المشركين.