إنه واحد من أشهر الأسئلة شيوعًا بين الناس..وتعددت الرؤى التي اجتهد أصحابها للتفريق بين: الوفاة، والموت..
نعلم أنَّ اختلاف الَّفظين يدل على أنَّ كل لفظ منهما له دلالته الخاصة به التي لا تكون للفظ الآخر..إنَّ استنباط الفرق بين الوفاة والموت لا يكون إلَّا بتدبر ءايات القرءان؛ لأنها من تفصيل الكتاب.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) ﴾ الزمر.
الآية بينت الفرق بين الوفاة والموت، ومع ذلك الكثير من الناس وضعوا رؤى للتفريق بين الوفاة والموت كانت بعيدة عن المراد الحق إلى الدرجة التي جعلت بعضهم يقول: إنَّ النفس لا تموت! فخلطوا بين الموت والفناء..
ولأن ءايات القرءان تتكامل ولا تختلف؛ فإنني أجد في ءايات أخرى ما نستنبط منه الفرق بين: الوفاة، والموت؛ كقول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ (١٩) ﴾ ق.
سكرة الموت هي المرحلة التي تعني أنَّ النفس خرجت من الحياة الدنيا، ولكن لم تمت بعد؛ ذلك لأن سكرة الموت هي المرحلة التي يتم فيها موت النفس بشكل متدرج حتى تخرج بشكل كامل من الجسم؛ وبالتالي: تموت ويموت الجسم الذي ينبض بالحياة، فيصير بدنًا لا حياة فيه؛ لأن النفس لا تكون في البدن، ولا تعود إليه إلَّا يوم البعث..
ماذا يحدث للنفس في سكرة الموت؟
تنقطع صلتها بالحياة الدنيا؛ فلا تحس بمن هم فيها، ولا تشعر بهم..في سكرة الموت: النفس لا تسمع الناس من حولها، ولا تراهم، حتى إن بدا أنَّ العين تتقلب وترى الناس من حولها..
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ (٢٠) ﴾ محمد؛ ينظرون إلى النبي – عليه الصلاة والسلام – ولكن لا يروه لأنهم شغلوا أنفسهم عن الاستماع إلى قول الحق.
وهذا يُشبه المغشي عليه من الموت حين انقطع عنه الحس والشعور بمن حوله في الحياة الدنيا فهو لا يراهم أو يسمعهم؛ لأنه أصبح في شأن ءاخر.
ولأن سكرة الموت هي الانقطاع الكامل عن الحياة الدنيا؛ نُسبت للموت ﴿ وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ﴾، ولم تُنسب للحياة.
(بالحق) بمعنى أنَّ النفس لم تُظلم بمجئ سكرة الموت التي أخرجت النفس من دار العمل والاختبار بعد أن استوفت أجلها الذي كُتب لها..وبمعنى ءاخر: لو عاشت تلك النفس وامتد بها العمر فإنها لن تؤمن، ولن تُصلح أبدًا؛ لذلك جاءت سكرة الموت بالحق.
لماذا سكرة الموت ليست هي الموت ذاته؟
لأن الإنسان في سكرة الموت يرى الملائكة ويسمعهم ويكلمهم ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ (١٠٠) ﴾ المؤمنون؛ فهو لم يمت بعد، ولكنه ليس في الحياة الدنيا؛ لأنه لا يمكنه أن يختار بين الخير والشر، أو يرى من هم فيها..
ولأن الله ـ عز وجل ـ وصفها بسكرة الموت، فهذا يعني أنَّها ليست أمرًا من أمور الحياة الدنيا ـ كما ذكرت من قبل ـ ولكن فيها تتم الوفاة؛ حيث يُرفع التكليف عن الإنسان بخروجه من الحياة الدنيا بعد أن استوفت النفس أجلها (ذلك المراد بالوفاة)، وفيها يتم موت النفس الذي يتحقق بخروج كامل النفس من الجسم.
ويمكن أن نستدل على أنَّ سكرة الموت هي مرحلة تلي الحياة الدنيا، وتسبق الموت، وليست هي الموت ذاته.. ذلك من خلال بلاغة قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ حِينَ مَوۡتِهَا ﴾؛ فلفظ: (حين) دل على الوقت الذي يتم فيه موت النفس بخروجها من الجسم بشكل متدرج وليس مرة واحدة؛ لأن خروج النفس من الجسم لا يتم مرة واحدة؛ وبالتالي: موتها لا يحدث مرة واحدة.
هل يُوجد شئ تكون فيه النفس لا هي ميتة، ولا هي حية كحالها في سكرة الموت؟!
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ ٱلَّذِي يَصۡلَى ٱلنَّارَ ٱلۡكُبۡرَىٰ (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ (١٣) ﴾ الأعلى؛ فهو ليس بالميت ولا بالحي إنه في شأن ءاخر يعلمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ لكن فيه الظالم يسمع، ويتكلم، ويحس بالعذاب المادي، ويشعر بالعذاب النفسي كالندم.
من هنا؛ قول الله: ﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ ﴾؛ يعني أنَّ الوفاة ليست هي الموت ذاته؛ لأن الإنسان لا يموت في منامه ثم يحيا من جديد، ولكن وفاة النفس في منامها تعني أنَّ النفس لم تمت، ولكن لا تحس ولا تشعر بالحاية الدنيا ما دامت تلك النفس في منامها (الإنسان في المنام لا يحس بمن حوله، أو يشعر بهم).
الوفاة في المنام هي انقطاع نسبي للنفس عن الجسم؛ وبالتالي: عن الحياة الدنيا..فقد يحدث شئ ما مثل: صوت مرتفع حوله، أو شئ يهدد سلامة الجسم؛ حينها تُرسل النفس إلى الجسم ليستيقظ الإنسان.
لكن من حيث الوفاة: فإنَّ لنفس في منامها كالنفس التي يتوفاها الله حين الموت؛ استوفت عملها في الحياة الدنيا في وقت منامها، أو حين موتها؛ فيتوقف عنها الشعور والإحساس بالحياة الدنيا، فيرفع عنها التكليف؛ ثم ترسل مرة أخرى إلى الجسم عند الاستيقاظ فتسترد الإحساس بالجسم والشعور بما في الحياة الدنيا؛ فتصير مكلفة مرة أخرى، ويتكرر ذلك ﴿ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ﴾ أي إلى أن يأتيها أجلها بالموت.
وللرد عل من قالوا: لو كان الإنسان يقظًا في أوقات منامه لربما ءامنت نفسه، وعملت الصالحات! نقول لهم: كل نفس استوفت عملها في يقظتها، ولو كانت يقظة أبدًا، ولم توفَّ في منامها؛ فإنها كذلك لن تؤمن، ولن تعمل الصالحات؛ فليس للنفس إلَّا ما عملت في يقظتها، ولو علم الله ـ عز وجل ـ أنها كانت ستؤمن وتعمل الصالحات في أوقات منامها؛ لردها اللهُ تعالى رحمة منه، ولكن اللهُ علم أنها في منامها لن تغير ما بها.
ولماذا لا نقلب قولهم، ونقول: إذا اللهُ تعالى لم يوفَّ النفس في منامها، وتركها في الحياة الدنيا تُكلف وتعمل؛ لماذا لا تزداد كفرًا، وتفسد أكثر في الأرض؟!
أما من ءامن وعمل الصالحات؛ لو قدر له عدم الوفاة والمنام؛ فإنه لن يفعل أكثر مما قدره اللهُ تعالى له من خير بحكمته وعلمه للغيب؛ بل غير ما قدره الله ـ سبحانه وتعالى ـ لن يكون خيرًا له؛ إنما سيكون شرًا له؛ لأن الله ـ عز وجل ـ قدر له الخير في أوقاته، ولا خير له في غيرها.
كذلك الأمر في سكرة الموت؛ حين يأتي النفسَ أجلُهُا بالموت؛ تكون تلك النفس قد وفت ما كُتب لها في الحياة الدنيا من عمل فلا ترجع إلى الجسم ﴿ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ ﴾، حتى يأتي يوم البعث، ولو عاشت للأبد لن تؤمن ولن تتوقف عن الفساد..
في النهاية:
الوفاة ليست هي الموت؛ بل هي انقضاء وقت العمل لتلك النفس؛ وبالتالي: رفع التكليف عنها في الحياة سواء في المنام، أو حين الموت، أو بعده دون أن تُظلم.