من الألفاظ المتشابهة: الفسير، التأويل، البيان؛ تلك الألفاظ يخلط الكثير بين معانيها..
من أمثلة ذلك قولهم: تأويل قول الله ـ تعالى ـ في حين أنَّ التأويل لا يكون للبشر أبدًا، إنما من يعلم تأويل المتشابه من القرءان هو اللهُ وحده.
الهدف من البحث هو وضع كل لفظ من تلك الألفظ بما يتوافق مع معانيها التي جاءت في القرءان، وليس بما هو درارج بين الناس.
لا شك أنَّ القرءان هو أفضل ما نستنبط منه المراد من كل لفظ جاء فيه؛ لذلك سنتبين في هذا البحث إن شاء الله من خلال ءايات القرءان الكريم الفرق بين: (البيان، والتفسير، والتأويل)، وكذلك المقصود بالتأويل البشري ومتى يكون.
ما هو المقصود بالتأويل البشري؟
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا (٥٩) ﴾ سورة النساء.
رأي الناس وحكمهم على شئ في أمور حياتهم هو تأويل بشري، والتأويل البشري دائمًا يكون نسبيًا، وليس قاطعًا.
لذلك فهو لا يُصيب الحق المُطلق الأمر الذي يُؤدي أحيانًا إلى حدوث نزاع بين الناس؛ لذلك فالأفضل أن يَرُدوه إلى الله والرسول ليأتيهم تأويل أحسن مما يأتون به.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥) ﴾ الإسراء.
توضح لنا الآية الكريمة أنَّ التأويل البشري لا يكون في أمور الدين، أو كلام الله – تعالى – لأنَّهم لا يحيطون بأمور الدين، أو بكلام الله علمًا، ولا يعلمون الغيب ولا يأتيهم علم من عند الله.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (٧) ﴾ سورة آل عمران.
لقد نفت الآية التأويل البشري للقرءان فهو من علم الله وحده، يأتينا يوم القيامة، وليس في الحياة الدنيا.
من يتبعون ما تشابه منه؛ يبتغون الفتنة ويبتغون تأويله فيحولوه عن معانيه الحقيقية البيِّنة ليفتنوا الناس عن الحق.
وقد وصفهم اللهُ بأنَّهم في قلوبهم زَيغ، فهم ليسوا من الراسخين في العلم الذين يؤمنون بكل ما أنزله اللهُ – عز وجل – حتى ما لم يتبينوا منه الحكمة بعد.
الإيمان لا يعني الدليل الشيئي (المادي) على كل قول في القرءان الكريم؛ بل الإيمان معناه أنَّ الإنسان يؤمن دون دليل شيئي (مادي) بالله.
فالمؤمن لا يطلب الدليل من الأساس وإلَّا أصبح ما يأخذه هو تصديقًا، وليس إيمانًا!
ولكي نفصل بين جزئين في الآية الكريمة علينا أن نقول: حرف الواو ليس دائمًا معناه أنَّ ما يأتي بعده يأخذ ذات صفات وحكم ما يأتي قبله.
وهو ما يسمونه في علم النحو بالعطف.
كذلك لو تطابق ما قبل حرف الواو مع ما بعده؛ ستتطابق النتيجة التي يشتركان فيها، وذلك سيؤدي إلى اختلال في معنى الآية؛ لأنَّه لا يجوز أن يكون الله مثل: (الراسخون في العلم) يؤمن بكلامه أنَّه من عنده! (ذلك حسب قاعدة حرف العطف).
فلو قلنا: (وما يعلم تأويله إلَّا الله والراسخون في العلم) وتوقفنا ثم استأنفنا القول؛ فقلنا: (يقولون ءامنا)؛ لاختل المعنى تمامًا؛ لأنَّه مثل ما قلنا في السابق: إنَّ ما سيأتي بعد لفظ (العلم) سيشير (كله) إلى ما جاء قبل لفظ (العلم) دون استثناء، وذلك يجعل المعنى وكأن الله ضمن من يؤمنوا بأنَّ الكتاب من عنده! فنُصبح حينئذ أمام قراءة خاطئة للآية الكريمة، واختلال واضح في معناها.
يقودنا ذلك إلى تأكيد أنَّ الراسخين في العلم يؤمنون به؛ وبالتالي: لا يعلمون تأويله، فليس لحرف الواو هنا أي دور في مُطابقة ما قبله بما بعده؛ وإلَّا سيتغير معنى الآية تمامًا بإخراجها عن مُرادها كما تبين.
بعض التفاسير تقول: إنَّ جملة (الراسخون في العلم) هي جملة استئنافية (مُنفصلة عما قبلها)، وليست معطوفة عليه..وهذا بدوره ينفي أنَّ (الراسخون في العلم) يعلمون تأويل القرءان.
مما سبق يتبين أنَّ قول الله – تعالى -: ﴿ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ ﴾ له مراد وهو أنَّ الله وحده يعلم تأويل القرءان. أما قوله – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ ﴾ بيَّن أنَّ: الراسخون في العلم يؤمنون أنَّه من عند ربهم؛ والإيمان دليل على أنَّهم لا يعلمون تأويل المتشابه من القرءان.
فالإيمان لا يكون إلَّا بغيب، مثل: الإيمان بالله، واليوم الآخر.
فهم تجاوزوا مرحلة التصديق بالشئ إلى الإيمان به.
إنَّ الآية تبين أنَّ الله وحده هو الذي يعلم تأويل القرءان؛ أما (الراسخون في العلم)؛ فهي تشير إلى العلماء في مختلف المجالات، وهم من يستنبطون الحقائق المتوافقة مع كلام الله وءاياته في القرءان الكريم؛ هؤلاء يؤمنون بالمتشابه من القرءان أنَّه من عند ربهم.
ما سبق ينفي قول البعض: هناك من يعلم تأويل القرءان! ذلك حين خلطوا بين البيان والتأويل..إنما نحن نتدبر القرءان لنتبين ونستنبط الحق منه، وليس لنؤوله.
إنما يؤول الناس في أمور حياتهم الأشياء النسبية فقط، ولا يكون التأويل في القرءان الكريم.
قول الله – تعالى – : ﴿ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ من الآية (٣٥) سورة الإسراء؛ هو تأويل إلهي في الأمور الحياتية النسبية التي تكون بين الناس؛ لكي يصلوا للتأويل الأحسن فيها، فيتجنبوا النزاع بينهم.
إنَّ الله يُعَلمُنا كيف نتبادل السلع دون ظلم حتى من خلال شئيًا مقابلًا، مثل: مقابلة السلعة بالنقود؛ ذلك تأويل.
الإنسان حين يشتري سلعة فإنَّ التاجر يُؤول ثمنها بقيمة مقابلة من المال الذي سيتم دفعه ثمنًا لها؛ أي يُعادل ثمنها بمقابل من المال..ذلك تأويل بشري، حَوَّلَ قيمة السلعة العينية لقيمة مالية نقدية، أو قيمة عينية لسلعة مقابلة. مثل: أن تتحول القيمة النقدية إلى سيارة، أو العكس..أو تتحول قيمة السيارة لقيمة سلعية أخرى مقابلة كالبيت مثلًا.
وحين نقوم بذلك، ولكي نصل إلى أحسن تأويل؛ فإنَّنا نلتزم بشرع الله – تعالى – لنتبين منه الحكم الصائب في تأويلنا ما استطعنا.
التأويل هنا: سلعة مقابل عملة نقدية، أو سلعة مقابل سلعة أخرى؛ هو تأويل نسبي، مثلًا: هل المال النقدي الذي سيتم دفعه ثمنًا للسلعة مناسب أم لا؟!
حتى لو تم شراء سلعة مقابل سلعة مماثلة لها، هو كذلك تأويل نسبي؛ لأنَّ السعلتين المتبادلتين ليستا على ذات الدرجة في كل شئ؛ حتى لو تشابهتا (كسيارتين من ذات النوع)؛ هي كذلك أمور نسبية.
الفاكهة لو كانت من ذات الشجرة؛ طعم الثمار لن يكون واحدًا بذات الدرجة..
القشرة، والبذور في الثمار لن يكونوا بذات الوزن في كل ثمرة! لا بد من وجود اختلاف بينهم.
هذا التأويل يرتبط بفعل البشر وتقديرهم للأمور؛ لذلك تأويل الله لهم أحسن تأويلًا عند مقارنته بتأويلهم.
كذلك الميراث لو تُرك للبشر لتنازعوا في حكمهم، وما عدلوا.
تلك هي النسبية التي تصنع النزاع، وقد تصل إلى حد الظلم دون أن يدروا. لذلك علينا إن تنازعنا في شئ أن نرده إلى الله ورسوله (في حياته)، وإلى ما طبقه الرسول – عليه الصلاة والسلام – وتم نقله إلينا بالتواتر بعد وفاته..
الناس يؤولون ما هو نسبي من أمور حياتهم، ولكن لا يؤولون المتشابه من القرءان؛ لأن الله وحده هو من يعلم تأويل المتشابهة من القرءان، والذي سيأتي تأويله يوم القيامة.
وهذا (كما بينا) دليل على عدم جواز تأويل البشر لأمور الدين؛ لأنَّ الدين ومنه تأويل القرءان لا يحتمل النسبية؛ بل لا بد أن يكون بينًا وقاطعًا، وهذا لا يكون إلَّا لله وحده.
وعند الانتقال لنتبين الفرق بين البيان والتأويل، نجد أنَّ بعض علماء اللسان العربي ربطوا بين البيان الذي قيل عنه: (التفسير) وبين التأويل؛ ذلك حين ظنوا أنهما بمعنى واحد..
وبعضهم قال: إنَّ التفسير هو المعنى؛ بينما التأويل هو الوصول إلى معنى مجازي.
كما اختلف الناس حول اللفظين؛ فمنهم من لم يفرق بين اللفظين تمامًا حين قالوا عن البيان في القرءان واستنباط المراد من الآيات: (وتأويل قوله تعالى)، فذهبوا إلى ما ذهب إليه بعض العلماء في اللسان العربي.
أما من يتصيدوا الأخطاء؛ فقد خاضوا في الحديث حين خلطوا بين التدبر والاستنباط، وبين التأويل الذي هو لله وحده (ذلك حسب وصف القرءان). فادعوا بالباطل أنَّ القرءان يتعارض بعضه مع بعض! وأشاروا إلى الآيات المُتشابهة في القرءان، وقالوا: كيف يقول اللهُ: إنَّه كلام بيِّن، وفى ذات الوقت يقول: ﴿ لا يعلم تأويله إلَّا الله ﴾؟!
لقد حدث ذلك عندما خلطوا بين التبين والتفسير من جهة، والتأويل من جهة أخرى! في حين أن كل لفظ يُؤدي لمعنى خاص به.
فعند تدبر لفظي: (التبين، والاستنباط) سنرى أنه الأسلوب المناسب لمعرفة الآيات المتشابهة، والتفريق بين معانيها بدقة كبيرة.
في الوقت ذاته سيتبين لنا أنَّ التفسير والتبين لا يعنيان التأويل؛ فالتأويل هو تحويل المعنى الظاهر إلى معنى باطن لم تذكره الآيات.

ما هو التفسير من القرءان الكريم؟
قال اللهُ – تعالي – : ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣) ﴾ سورة الفرقان.
يتضح من لفظ (تفسيرًا) الذي تم ذكره في الآية للمرة الوحيدة في القرءان أنَّ تفسير الله أحسن بيانًا للمعاني الكلية في الأمثلة التي تبين لنا الحق.
والتفسير يكون للظواهر الطبيعية كتكون السحب ونزول الماء.
أو خلق الإنسان وبعثه يوم القيامة؛ فهو أحسن بيانًا وتوافقًا من أمثلتهم، التي ضربوها لرسول الله – عليه الصلاة والسلام -.
وهذا بدوره يصل بنا إلى معنى التفسير: إنه استنباط الدلالات دون زيادة، أو نقصان، التي تفسر ما هو في ملكوت السموات والأرض، دون أهواء.
كذلك يتضح لنا أنَّ التفسير درجات بدليل قوله – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾؛ وذلك وفقًا لدرجة اسنباط كل إنسان للمعنى الحق للشئ الذي نقوم بتفسيره، مثل: كيف ينشأ الجليد، أو تفسير الأحداث.
وتفسير حدوث الشئ قد يختلف من إنسان لآخر؛ بل قد يختلف لدى الإنسان نفسه من حالة لأخرى.
أما تبين الحق في القرءان فهو تدبر لأنه كلام الخالق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، و لا من خلفه..
أما تأويل ءايات القرءان؛ فهو ليس إلَّا شيئًا واحدًا لا درجات فيه، أو نسبية، فلا نجد في القرءان لفظ (أحسن تأويلًا) التأويل لم يُنسب للبشر فيما يخص ءايات القرءان؛ لأنَّ تأويل البشر يكون فقط في أمور حياتهم – النسبية – مثل: تأويلهم لفض نزاعهم على شئ من أمور الحياة.
ويكون تأويلهم نسبيًا، وربما يكون خاطئًا؛ وقد يتسبب هذا في استمرار النزاع فيما بينهم لعدم دقة تأويلاتهم؛ فكان رده إلى الله ورسوله الذي يتلقى العلم من الله – تعالى – هو أحسن تأويلًا (هذا في النزاع الذي ينشأ في أمور الحياة بين الناس؛ فلم يكن مراد الآية تأويل القرءان).
ولأنَّ التأويل في القرءان وثوابت الدين ليس نسبيًا؛ بل لا يكون إلا قاطعًا لا يختلف الناس فيه؛ لذلك لا يجوز أن يكون تأويل القرءان من قبل البشر، حتى لا يخضع للمتغيرات والحسابات المختلفة بينهم؛ لأنَّ الدين وعلم الغيب من عند الله، وكلاهما قول بين ثابت يعبر عن مراد الله وإرادته.
لذلك تأويل ما غاب عن الناس مما هو من علم الغيب لا نسبية فيه؛ فليس للبشر أن يقوموا بتأويل الغيب دون علم ءاتاهم من عند الله.
وهذا التأويل الذي ءاتاه الله تعالى لمن شاء من عباده، مثل: سيدنا يوسف؛ ليكون له ءاية على أنه رسول من عند الله، ليس للبشر بمثله بعد أن نزل القرءان، وتوفى النبي – عليه الصلاة والسلام -.
وما لم يأتنا تأويله في الحياة الدنيا سيأتي تأويله يوم القيامة من عند الله عالم الغيب والشهادة.
وعودة للتأويل (الغير نسبي) إنه لا يكون بالرأي؛ لأنَّه لا نسبية فيه.
أما البيان – الذي يُسمى بالتفسير – فهو يعتمد على التدبر لاستنباط المراد من الآيات المتشابهات، ولكن دون رأي لأن الحق بيِّن لا رأي فيه.
ولكن محاولات الوصل إلى مراد الآية هو نسبي قابل للتغير من قبل المتدبرين لآيات القرءان حتى يصلوا لأقرب شئ ممكن من مراد الله – تعالى – في الآية التي يقومون بتدبرها لاستنباط المراد منها.
أما التفسير فيكون للظواهر الطبيعية، مثل: تفسير الجاذبية، أو أسباب تكون السحب ونزول الماء من السماء.
وعودة إلى التأويل الحق الذي لا يكون إلَّا بعلم من الله؛ قال اللهُ – سبحانه وتعالي – : ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) ﴾ سورة يوسف .
تلك رؤية يوسف – عليه السلام – قد جاء تأويلها عندما جاء يعقوب – عليه السلام – وأهله إلى مصر ، وسيأتي ذكر تأويلها فيما بعد.
قال – سبحانه وتعالى- : ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) ﴾ سورة يوسف.
عندما قالا: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ بدأت الآيات في اتجاه يبين أنَّ صاحبي السجن، قطعًا لم يتوقعا بما سيُنبئهما سيدنا يوسف من تأويل، إنَّه علم مجهول بالنسبة لهما بكل تفاصيله.
ونلاحظ عند ذكر لفظ (التأويل) تم ذكر لفظ (نبأ)، والنبأ هو العلم الذي يأتي دون مقدمات، و لا يمكن لإنسان أن يتوقعه، أو يزعم أنَّه يتوقعه.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) ﴾ سورة يوسف.
إنَّه الترتيب الالهي للأحداث، فقبل أن يبدأ سيدنا يوسف في تأويل الرؤيتين، أراد أنَّ يُزيل أي شبهة شك لدى صاحبي السجن.
فحين أشار يوسف – عليه السلام – إلى أنَّ ما سيأتيهما من تأويل، هو مما علمه ربه ﴿ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ لم ينسبه لنفسه، أو يزعم أنَّه من اجتهاده.
كما لم يصف تأويله للرؤيتين بأنه بيان، أو تفسير، وهذا دليل على بلاغة الألفاظ، ودقة معانيها في القرءان؛ لأنه كان وحيًا من عند الله.
وعندما بدأ يوسف – عليه السلام – في تأويل الرؤيتين نتذكر قول الله – تعالى – : ﴿ وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) ﴾ سورة يوسف؛ لنعلم أنَّ تأويل سيدنا يوسف للرؤيتين، هو علم من الله، وليس حسب رؤيته هو.
قال سيدنا يوسف لصاحبيه في السجن: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ) وقال للآخر ( وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١) ﴾ ذلك تأويل يوسفُ – عليه السلام – للرؤيتين.
لقد أتى بمعاني باطنة لم تذكرها الآية، لكنها كانت حق أوحي إليه من عند الله، وليست مجرد اجتهادات من نفسه.
أمَّا تأويل الآيات المتشابهة في القرءان فيعلمها اللهُ – تعالى – وحده (المحكم لا يتم تأويله يوم القيامة لأن ءاياته ليست أحداثًا؛ بل هي أنباء عن الله وصفاته).
والآن ننتقل إلى تأويل يوسف عليه السلام لرؤية الملك وكيف يختلف التأويل عن المعنى الظاهر
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ (٤٣) قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمٖۖ وَمَا نَحۡنُ بِتَأۡوِيلِ ٱلۡأَحۡلَٰمِ بِعَٰلِمِينَ (٤٤) وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنۡهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ (٤٩) ﴾ سورة يوسف.
هذه الآيات الكريمة تفرق بوضوح بين التأويل، وبين: التفسير، والتدبر والبيان؛ حيث تبين أنَّ التأويل لا يكون إلَّا بعلم من الله – عز وجل -.
لماذا قالوا: (تأويل الأحلام) ثم ربطوها بالعلم؟!
لأنَّهم سيغيرون المعنى الظاهر (الذي قصه الملك وهو ما رءاه في الحلم) إلى معنى باطن لم يَظهر في الرؤيا.
فلم يجدوا غير يوسف – عليه السلام – بعد أن تحققت نبوأته لصاحبيه في السجن؛ فأدرك الذي نجى بعد أمة من الوقت أنَّ يوسف هو من سيُؤول رؤية الملك التي قصها على الملإ.
وقد تحقق ذلك بالفعل، ووجدنا سيدنا يوسف الذي ءاتاه اللهُ علمًا قد أوَّلَ الرؤية الباطنية على حقيقتها التي لم تظهر للملك، أو للناس، والتي اختلفت تمامًا مع المعنى الظاهر لرؤية الملك.
لقد قال سيدنا يوسف العلم الذي أوحي إليه من الله وهو العلم الذي سيكون واقعًا في المستقبل، وليس ليوسف – عليه السلام – سبيل لعلم التأويل أوعلم الغيب دون أن يأتيه علمًا من الله – تعالى – عالم الغيب وحده.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ (٤٩) ﴾ سورة يوسف.
قص عليه الرسول (الذي صاحبه في السجن من قبل) رؤية الملك وهي: ﴿ سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ ﴾ من الآية (٤٦) سورة يوسف.
فقال له يوسف – عليه السلام – : إنَّهم يزرعون سبع سنين دأبًا (بشكل متواصل)؛ ثم طلب منهم أن يذروا ما حصدوه في سنبله إلَّا قليلًا مما يأكلون.
بعد ذلك تبدأ سبع سنين شداد يأكلن ما قدموه؛ أي سيأكلون في السبع سنين الشداد (التي بها نقص في المحاصيل) ما أدخروه في السبع التي كانت مليئة بالخير؛ فيقل ما أدخروه في السبع سنين الشداد؛ إلَّا قليلًا مما يحصنون (أي مما يدخره ليزرعوا منه بعد إنتهاء السبع سنين الشداد).
لقد تغير المعنى تمامًا فيما قاله يوسف – عليه السلام – عما رءاه الملك في رؤياه، وهذا هو التأويل الذي يعني تحويل المعنى الظاهر لمعنى باطن، ولكن حقيقي لا يأتي إلَّا من عند الله لمن أراد من عباده الصالحين.
أمَّا التفسير الذي يستنبط المعنى الحق من الأحداث، والظواهر الطبيعية قدر المستطاع؛ فهو يزداد قوة كلما ازداد العلم وما يكتشفه الناس مع مرور السنين، فما كان غامضًا في الماضي يظهر جليًا في الحاضر.
أشياء جميلة نتبينها من قصة سيدنا يوسف
يوسف ـ عليه السلام ـ سُجن ظلمًا، لكن حين طلب الملك فتواه؛ نلاحظ أنَّ يوسف – عليه السلام – لم يستغل الموقف ليخرجوه من السجن؛ بل أفتاهم بتأويل الرؤية ولم يشترط عليهم خروجه من السجن أولًا، أو حتى أن يذكره الرسول عند الملك أنَّه تم سجنه ظلمًا؛ بل أفتاهم بخلق الأنبياء – عليهم السلام – وما يجب أن يكون عليه المؤمن.
وعندما أراد الملك أن يستخلصه لنفسه من بعد ما وجد فيه خلقًا، وعلمًا؛ لم يفرح سيدنا يوسف بالخروج من السجن، أو يتشبث بفرصة الخروج منه؛ بل أراد أن تظهر براءته أولًا قبل أن يخرج من السجن ويذهب إلى الملك.
لقد أظهر حب الحق على الحرية وعلى أن يكون مقربًا من الملك.
هم – عليهم السلام – لم يُريدوا متاع الحياة الدنيا وزينتها؛ بل هانت عليهم بمقدار قربهم من الله – عز وجل – وبما عرفوا من الحق..إنهم خير البشر، وقدوتهم.
قال تعالي: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) ﴾ سورة يوسف.
لقد بيَّن يوسف – عليه السلام – مرة أخرى معنى التأويل، عندما نقل المعنى الظاهر، الذي تمثل في رؤيته لأحدى عشر كوكباّ، والشمس والقمر له ساجدين، إلى معنى باطن تحقق في تلك اللحظة من سجود اخوته له، وكان هذا دليلاً على خضوعهم للحق الذي تبيَّن لهم، بعد ما مرَّ من أحداث.
يتضح لنا من تدبر الآيات أنَّ تأويل سيدنا يوسف للرؤى، قد حوَّلَ المعاني الظاهرة، إلى معاني باطنة، لم تدل عليها الآيات في ظاهر كلماتها، إنما كان علمًا من عند الله، ءاتاه يوسفَ – عليه السلام -.
ننتقل إلى قصة سيدنا موسي، والعبدُ الصالح، الذى ءاتاه الله من لدنه علمًا..
سورة الكهف الآيات من (٦٥) الي (٨٢)
: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠) فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢) ﴾
الآيات الكريمة تتحدث عن التأويل، الذي تم وصفه بأنه: (نبأ) لأنه علم غيب من عند الله، لم يتوقعه موسى – عليه السلام – فكان بالنسبة له من أنباء الغيب.
موسى – عليه السلام – كانت ردة فعله، وتعجبه على ظاهر الأحداث، التي بدت أنها تعارضت مع الحق، وعلمه الظاهر، ولم يخطر بباله الأسباب الباطنية الحقيقية لما حدث.
حتى أنبأه العبدُ الصالح بما ءاتاه اللهُ من علم، قال: ﴿ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) ﴾؛ فنبأه بما حدث مؤكدًا أنَّه علم من عند الله – سبحانه وتعالى – لا يقدر على تقديره بشر فقال: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢) ﴾؛
إنَّه تأويل من عند الله، نقل المعاني الظاهرة للأحداث وما قدره الله – تعالى – إلى معاني باطنة حقة أوحيت إلى العبد الصالح من عند الله عالم الغيب والشهادة.
ولنا في قصة موسى – عليه السلام – عبرة لمن يظن أنَّ التأويل في مقدور البشر في أي وقت.
موسى نبي الله، ومع ذلك لم يكن قادرًا على تفسير حقيقة ما كان يحدث أمامه من العبدُ الصالح.
ظلَ موسى – عليه السلام – متعجبًا مما يفعله العبد الصالح.
وكلما مر بحدث يتناقض مع علمه الظاهر والحق بزداد تعجبه واعتراضه لما حدث إلى الدرجة التي جعلته ينسى في كل مرة وعده للعبد الصالح بألَّا يسأله مرة أخرى عما يفعل.
ولكن سيدنا موسى ببشريته وعلمه، لا يستطيع صبرًا حتى يأتيه نبأ ما يرى من أحداث لا تتوافق مع علمه البشري الظاهر.
إنها حكمة من الله، ألَّا نحكم على أفعال الله بعلمنا المحدود، ولا نستعجل تأويل كل ما نعجز عن تفسيره في الحياة الدنيا..
فالموعد يوم القيامة؛ حيث يأتينا تأويل كل ما لم نستطع عليه صبرًا، مثل ما أُوتي موسى – عليه السلام – بعضًا منها في الحياة الدنيا.
لم يستطع موسى نبي الله أن يُؤول الاحداث التي رءاها على ظاهرها.
إن سيدنا موسى المرسل من الله – تعالى – لم يرَ الأحداث على حقيقتها الباطنة التى يعلمها الله وحده؛ حتى أنبأه العبدُ الصالح الذي ءاتاه اللهُ علمًا بحقيقة ما حدث.
فكيف يتسنى لنا تأويل علم الله بأنفسنا، ثم ندعي أنَّه الحق الذي أراده اللهُ، من أين لنا بهذا العلم الإلهي؟!
مع ازدياد العلم البشرى، فإنًّ تدبر القرءان لن يتوقف حتى تقوم الساعة، وهذا يجعلنا نُفرق بين التدبر، والتأويل.
تأويل المتشابه من القرءان هو ضياع للبيان الحق لآيات القرءان المتشابهة؛ لأنه يُخرجها عن مرادها الحق.
فقد أكَّدَ اللهُ – سبحانه وتعالي – أنًّ تأويله، وليس بيانه سيأتي يوم القيامة. فلا يدعي بشر أنَّه يُؤول كلام الله ظنًا منه أنَّه تدبر.
كما لا يجوز تحويل الدلالات الظاهرة للآيات إلى دلالات مجازية بعيدة عن مراد الله من الآيات.
وأكثر ما يتعرض للتأويل في القرءان هو المتشابه.
والمتشابه في القرءان هو الآيات التي تتشابه مع بعضها البعض، ولكن مع وجود اختلاف بسيط في الألفاظ، وهذا يجعلها وكأنها تعطي معنى واحد.
قال اللهُ – تعالي – : ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) ﴾ سورة يونس.
لأنهم لم يُحيطوا بعلمه، فليس لهم أن يعلموا تأويله بانفسهم؛ إنما سيأتيهم تأويله من عند الله يوم القيامة.
قال اللهُ – تعالي – : ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) ﴾ سورة الأعراف، يوم القيامة سيأتي تأويله ويخسر الذين افتروا على الله الكذب؛ الذين أولوا ءايات القرءان من عند أنفسهم.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧) ﴾ سورة آل عمران .
بينت الآيات أنَّ تأويل المتشابه يعلمه الله وحده، وسيأتي نبأه يوم القيامة، أما الراسخون في العلم سواء في تدبر القرءان، أو الذين يفسرون الظواهر الطبيعية في علوم الطب، والفلك والجيولوجيا وغيرها، ويستنبطون الحق من الآيات المتشابهة وفقًا لدلالاتها الظاهرة – عندما يشاء الله- من خلال التدبر الذي يكون للقول، والتفسير الذي يكون للأحداث والظواهر الطبيعية، وليس من خلال التأويل (كما يَظن البعض)؛ يقرون بأن القرءان محكمه ومتشابهه كله من عند الله.
ذلك لأن تأويل المتشابه من القرءان يكون لله وحده.
دلالة (الراسخون في العلم) ليست كما يظن بعض الناس، أنهم الذين يقومون بتأويل كلام الله من المتشابه!
هذا غير صحيح، لأنَّ الآية عندما تحدثت عن الراسخين في العلم، بينت أنَّهم ءامنوا أنَّ المُحكم، والمُتشابه كله من عند الله، فهم ليسوا في حاجة لمعرفة تأويل المتشابه حتى يصدقوا أنه من عند ربهم.
كما أن الآيات لم تُبين أنهم يُؤولون المتشابه؛ بل يّؤمنون به.
إنَّهم ءامنوا بأنَّ ءايات القرءان من عند الله بقلوبهم؛ سواء استنبطوا المراد من المتشابه منها ووصلوا لمعانيه، أو لم يستنبطوه.
فاللهُ – عز وجل – يُبين للناس، أنَّ المؤمن لا ينتظر أن يستيقن صدق ءايات الله ليؤمن بها؛ بل هو يؤمن بها لأنَّه استيقن أنها من عند الله.
أما التأويل (المعاني الباطنة للمتشابه) فهو لله وحده يأتينا يوم القيامة.
وضد (الراسخون في العلم)، يأتي الذين في قلوبهم زيغ؛ الذين يتبعون المتشابه من القرءان ابتغاء الفتنة وابتغاء تأوله.
إنهم يبتغون فتنة الناس في دينهم، إما بزعمهم أنَّ القرءان فيه اختلاف، وإما بتحريف الكلم عن موضعه من خلال اكسابه دلالات ليست له؛ ليحرفوا الآية عن المراد الحق.
وبعد ما سبق يتبن أنَّ التأويل، هو عبارة عن نقل المعنى الظاهر إلى معنى باطن، لا يستطيع أحد من الإنس، أو الجن أن يعلمه إلَّا من اصطفاهم الله من عباده الصالحين، مثل: سيدنا يوسف، والعبد الصالح.
وليس بعد النبي – عليه الصلاة والسلام – من إنس، أو جن لديه علم التأويل..
أما ما في القرءان من متشابه، فلا يعلم تأويله إلَّا الله وحده.
إنما الناس يتدبرون القرءان، ولا يُؤولونه؛ ليستنبطوا ما فيه من حق بحكمة من الله – تعالى -.
كذلك العلماء في مجال الطب، والفلك، والهندسة، وعلوم البحار، وغير ذلك من المجالات، منهم من يصل إن شاءالله من خلال أبحاثهم إلى بعض التفاسير الحقة للظواهر الطبيعية، والأحداث.
وحين يتدبرون ءايات القرءان من خلال ما توصلوا إليه من علم؛ يستنبطون دلالات عدد من تلك الآيات التي كانت معانيها غير مدركة من قبل؛
بل ومن خلال تدبر ءايات القرءان يمكن للعلماء أن يفسروا الظواهر الطبيعية بدقة بالغة..فيتبين لهم أن القرءان هو كلام الله.
وفي النهاية:
تبين لنا من خلال تدبر القرءان واستنباط دلالة ألفاظه أنَّ التفسير ليس هو التأويل، وأنَّ التأويل ليس هو البيان، ولكن لكل لفظ معناه بالغ الدقة والكمال.