الفرق بين: (الخطأ)، و (المعصية).

هل كل خطأ، هو: معصية؟

من الناس من يقولون: إنَّ النبيِّن عُصموا من فعل الكبائر؛ ولكن لم يعصمهم اللهُ من صغائر الذنوب!

أسعى من خلال ذلك البحث إلى الرد على من قالوا: إن النبيِّن يريدون فعل الكبائر ولكن اللهُ يمنعهم من فعلها.

وأريد أن أثبت أنَّهم: لم يفعلوا الكبائر؛ لأنَّهم يخشون ربهم، وليس لأنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو من منعم من فعل المعصية.

هم أرادوا أن يتقوا ربهم، واللهُ تعالى أعانهم على ذلك.

ومن أمثلة ذلك يوسف ـ عليه السلام ـ حين راودته امرأة العزيز واستعصم؛ فإن الله حفظه من كيدها.

وقد يسأل سائل: ما معنى العصمة إذًا؟!

مفهوم العصمة لا يُراد به منع النبي من فعل الكبائر، ولكن معناها: حفظه من أن يضره الناسُ أثناء الدعوة؛ فلا يخشى منهم أحدًا.

كيف يظن البعض أنَّ الأنبياء يريدون فعل الكبائر واللهُ يمنعهم من فعلها؟!

أليس كثير من الصالحين لا يفعلون الكبائر ولا يعصون ربهم بإرادتهم!

فما بالنا بمن اصطفاهم اللهُ – عز وجل – من بين الصالحين لرسالاته، وهم أشد الناس تقوى لربهم؟!

هنا أُريد أن أفرق بين: (الخطأ، والمعصية) وأُثبت أنَّ النبيِّن قد يُخطئون؛ ولكن ـ وهذا هو الأهم ـ لا يتعمدون الخطأ، ولا يفعلون الكبائر.

لأن النبي إن أخطأ فإن خطأه لا يكون معصية؛ لأنَّه لا يتعمد الخطأ.

وحين يدرك النبي أنَّه أخطأ – دون تعمد – في تقدير أمر ما، أو في رد فعله تجاه شئ ما؛ فذلك يعود إلى طبيعته البشرية، وليس إلى رغبته في معصية الخالق.

وسرعان ما يستغفر الله؛ ذلك لأنَّه علم أنَّ الفعل لا يتوافق مع سنة الله. ولأنَّ النبي لا يتعمد الخطأ، ولا يُصر على فعله؛ لذلك فلا يُمكن وصفه بأنَّه عصى ربه.

ما هو الخطأ الَّذي لا يكون معصية؟

إنَّه الخطأ غير المتعمد؛ وهو ما يقع من الإنسان دون تعمد فعله، أو دون أن يعلم ـ من الأساس ـ بأنَّه خطأ يُخالف سنة الله تعالى.

هل معنى هذا أنَّ الخطأ غير المتعمد هو كذلك يُخالف سنة الله؟!

نعم، مثل: القتل الخطأ؛ لأن القتل أصاب نفسًا بريئة؛ فهذا في حد ذاته يُخالف سنة الله في تحريم قتل النفس إلَّا بالحق.

ولكن ـ مثل ما قلت ـ لا يتعمد الإنسان فعل الخطأ ووقع دون إرادته؛ لذلك يغفره اللهُ تعالى له.

ومن أمثلة ذلك من القرءان

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ ﴾ من الآية (٩٢) النساء. الآية تُبيّن لنا القتل الخطأ، وهو: الَّذي لم يتعمد الإنسان فعله (لم يتعمد القتل) مثل: حوادث الطرق التي تحدث دون إرادة قائد السيارة ـ مع استبعاد عنصر الإهمال ـ.

أمَّا الخطأ المتعمد (معصية أمر الله) فهو الَّذي يُحاسب عليه فاعله؛ ويتبيَّن هذا من قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ (٩٥) ﴾ المائدة؛ فالتعمد في الخطأ هنا ـ كما يتبيَّن لنا ـ هو الَّذي يستوجب عقاب الفاعل؛ فكان الجزاء كفارة لفعله؛ لأنَّه تعمد مُخالفة أمر الله.

إذًا المعصية هي تعمد فعل الخطأ ـ بعد أن علمَ فاعله ـ بأنَّه معصية، وأنَّه يُغضب اللهُ.

قال اللهُ – تعالى – : ﴿ فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ (١٢١) ﴾ طه.

نحن نعلم أنَّ سيدنا ءادم قد حذره ربُهُ من الأكل من الشجرة: ﴿ وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (٣٥) ﴾ البقرة؛ إذًا التحذير سبق الأكل من الشجرة، وسيكون الأكل منها ـ في حال التعمد ـ مُخالفا لأمر الله الذي علم به سيدنا ءادم وزوجه.

وهنا نتوقف عند دقة كلام الله: ﴿ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ ﴾ من الآية (٢٢) الأعراف؛ تم سؤال سيدنا ءادم وزوجه عن سبب أكلهما من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها.

فربما نسيا ـ دون تعمد ـ ما أوحي إليهما، فلا يكون الأكل منها ـ في هذه الحالة ـ معصية؟

فبين لنا الخالق أنَّهما تعمدا الأكل من الشجرة مُخالفان أمره لهما ﴿ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ ﴾ هنا وقع الخطأ بمتعمد؛ فصار معصية؛ لأنه خالف أمر الله تعالى.

إذًا ما هي المعصية؟

هي: الخطأ المُتعمد بعد أن علم الإنسان بأنَّ فعله يُخالف أمر الله تعالى.

أمَّا الخطأ الَّذي ليس بمعصية، فهو: إمَّا فعل شئ يُخالف سنة الله دون علم الإنسان بأنَّه مُخالف لسنة الله تعالى، أو نسي أنَّه يُخالف سنته.

وإمَّا: فعل شئ يعلم أنَّه مُخالف لأمر الله، ولكن لم يتعمد الإنسان فعله؛ كالقتل الخطأ..

والآن سأذكر بعض الآيات التي يستشهد بها البعض حين يحاولون أن يُثبتوا للناس أنَّ النبيّن يُمكن أن يعصوا الله متعمدين فعل الخطأ!

ويقولون: لكن الله عصمهم ـ منعهم ـ من فعل الكبائر حتى إن أراد النبي فعلها! هل تدرون معنى قولهم هذا؟!

معناه: أنَّ النبي يعلم ـ ولم ينسَ ـ أنَّ ذلك الشئ قد نهى اللهُ تعالى عن فعله، وأنَّ فعله متعمدًا سيغضب الله؛ ثمَّ يُصر على فعله لكن الله يمنعه من فعل المعصية!

هذا لا ينبغي في حق من هم خير البشر.

هؤلاء لو أدركوا الفرق بين: الذنب، والخطأ، والمعصية؛ لأدركوا أنَّ النبيّن لا يعصون الله، ليس لأنَّ الله منعهم من فعل المعصية، ولكن لأنَّهم أشد الناس تقوى لله تعالى.

كما أنَّ النبيِّن ليسوا أقل من الصالحين في تقوى ربهم.

الكثير من الصالحين لم يصطفِهم اللهُ للنبوة ورسالاته؛ لم يفعلوا الكبائر خشية لربهم.

ولا شك أنَّهم لم يبلغوا درجة التقوى التي بلغها النبي؛ لأنَّ النبيَّن ـ بلا شك ـ هم أفضل الناس.

سنتبيَّن الآيات التي استدلوا بها على إمكانية معصية النبيِّن للخالق؛ لنستيقن أنَّها لا تعني المعصية أبدًا.

قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَدَخَلَ ٱلۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَٱسۡتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي فَٱغۡفِرۡ لِي فَغَفَرَ لَهُۥٓۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (١٦) ﴾ القصص. سيدنا موسى يعلم أنَّ الله ـ تعالى ـ قد حرَّم قتل النفس إلَّا بالحق، وفي الآية يتيبَّن لنا أنَّ سيدنا موسى لم يتعمد قتل النفس التي حرَّم اللهُ.

ولكن حين وكز الرجلَ قتله دون أن يتعمد قتله، أو فعل المعصية، أو تعمد مُخالفة أمر الله وسنته.

ماذا نستنبط من ذلك؟

إنَّ ما حدث من سيدنا موسى، هو: القتل الخطأ، وليس تعمد القتل؛ وبالتالي: سيدنا موسى لم يتعمد معصية الله، أو مخالفة سنته.

ولأنَّ سيدنا موسى قتل نفسًا بما يُخالف سنة الله؛ استغفر ربه على أنَّه خالف سنة الخالق (حتى لو خالفها دون تعمد).

قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩ (٢٤) ﴾ ص.

نعم سيدنا داود شعر أنَّه أخطأ، ولكن كما يتبيَّن لنا: أخطأ في تقديره للأمر، ولم يتعمد الخطأ، ومعصية الله؛

أي لم يتعمد مُخالفة سنة الله تعالى. لذلك ما فعله سيدنا داود لم يكن معصية.

إذًا لِمَ استغفر ربه، وهو لم يتعمد فعل الخطأ؟!

مع أنَّه لم يتعمد مُخالفة أمر الله استغفر ربه لشعوره أنَّه تسرع في قوله: ﴿ قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ ﴾.

لأنه وصف الطرف الآخر: بأنَّه ظلم الشاكي قبل أن يستمع إليه فيتبيَّن منه ما حدث.

هنا ظن سيدنا داود أنَّ الله فتنه ـ اختبره ـ ليتعلم من هذا الحدث، ونتعلم نحن من ءايات الله ـ تعالى ـ في ألَّا نتسرع في الحكم على الأمور قبل أن نتبيَّن الحق فيها.

وحين استغفر ربه كان اعترافًا من سيدنا داود بالخطأ في حق من انتقدهم دون أن يستمع إليهم؛ بل وبالخطأ في حق الله ـ تعالى ـ لأنَّ ذلك خالف سنة الله (حتى ولو كان دون تعمد).

الأنبياء بشر مثلنا، وهم أشد الناس خشية لله ـ تعالى ـ لا يقعون في الذنوب متعمدين؛ فهم ليسوا أقل من الصالحين في خشيتهم لله.

وسنتبيَّن ـ إن شاء الله ـ في بحث ءاخر؛ المراد: بالذنب؛ ليكتمل المعنى حين نقارن بين: الخطأ الَّذي ليس هو بمعصية (خطأ غير متعمد)، والمعصية (تعمد مخالفة سنة الله، أو مخالفة أمره بعلم) ولِمَ نستغفر الله في كليهما.

والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart