ولا شك أنَّ في ذلك فتنة عظيمة؛ لأنَّه قد يُشكك البعض في المراد الظاهر الثابت لكل ءاية؛ فيأخذونهم إلى سبيل ءاخر غير سبيل الحق.
منهم من قال: إنَّ الصيام ليس المراد به الانقطاع عن الطعام والشراب، وأنَّ الإنسان يمكنه أن يأكل ويشرب في نهار رمضان، وهذا لا يُفسد صيامه!
بماذا أرادوا تضليل الناس؟
تأويل الآيات! فهم يعتبرون حسب رؤيتهم الباطنية (التأويل) أنَّ الصيام لا يعني الانقطاع عن الأكل والشراب، ولكن هو صيام نفسي، وأنَّ من ينقطع عن الطعام والشراب في نهار رمضان ضل السبيل!
والشئ العظيم أنَّه من الناس من صدقهم، وبارك تدبرهم لآيات الله!
أو هكذا يصنعون؛ ليُحرفوا الكلم عن بعض مواضعه!
هذا هو شأن التأويل الَّذي خالف (بمعناه الباطني)؛ ظاهر قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (١٨٧) ﴾ البقرة.
الآية بيِّنة لا تقبل الجدل؛ فالصيام حسب ما جاء فيها، هو: الانقطاع عن الأكل، والشراب، والرَّفث من الفجر إلى الَّيل.
ما هو التأويل، ولماذا يغير مراد الآية؟
التأويل يعني أنَّ كل إنسان يُؤول ءايات الله كما يرى، فيبتعد صاحبه عن المراد الحق في الآية الَّذي نتبيَّنه من خلال التدبر.
وأنا لا أُؤمن بتأويل ءايات القرءان من قبل البشر أبدًا، وقد بيَّنت ذلك من قبل مستندًا إلى ءايات القرءان.
ومن الناس من يخلط بين: التبيُّن، والتفسير، والاستنباط، وبين: التأويل الذي يأتي بمعاني باطنية لا يمكن أن يعلمها البشر.
لكن ما أُؤمن به حين نتدبر القرءان هو: البيان واستنباط معاني كلام الله، والمراد من الآيات كما هي (أي دون تأويل)؛ لئلا يتغير مرادها الحق.
من أمثلة التفسير الذي يخلط الناس بينه وبين التأويل
العلماء حين يدرسون شيئًا من الظواهر الطبيعية؛ فهم لا يقومون بتأويلها؛ ولكن يقومون بتفسير ما اكتشفوه من تلك الظواهر من خلال ما يستنبطوه من حق؛ لكي يعلموا، أو يعرفوا أسبابها؛ فيُمكنهم الاستفادة منها فيما هو جديد، أو تبيُّن ما قابلهم من إشكاليات..
وما هو التأويل من خلال معناه في القرءان؟
إنَّ التأويل حين تم ذكره في القرءان؛ كان يعني تحويل المعنى الظاهر للفظ، أو للحدث؛ إلى معنى باطن لا يمكن لأحد أن يُدركه إلَّا وحيًا من الله ـ تعالى ـ .
ومن أمثلة التأويل التي ذكرها القرءان الكريم؛ الأحداث التي أولها سيدنا يوسف بعلم من عند الله.
قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ (٤٩) ﴾ يوسف.
كما يتبيَّن لنا: سيدنا يوسف غيرَ المعاني البينة (الظاهرة) إلى معاني باطنة لا يعلمها الناس، ولا يُمكن أن يستنبطوها من ظاهر القول؛ بل ولا يتيسر لأحد ـ حتى ليوسف ـ أن يعلم بها دون علم يأتيه من الله ـ تعالى ـ لأن تأويلها من علم الغيب الذي يعلمه اللهُ وحده.
ما الدليل على هذا؟
الدليل هو قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ ﴾ من الآية (٦) يوسف.
قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ ﴾ من الآية (١٠١) يوسف.
قال الله ـ تعالى ـ : ﴿ قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ ﴾ من الآية (٣٧) سورة يوسف.
تلك الآية الكريمة بينت بشكل قاطع معنى تأويل الأحداث التي منها القول:
إنَّه علم من الله ـ تعالى ـ أوحاه إلى سيدنا يوسف خاص بكل حدث ليكون له برهانًا على أنَّه رسول من عند الله.
إنَّ التأويل لا يأتي بالدراسة، أو بتدبر القول؛ فهو من علم الغيب الذي لا نصل إليه بالتدبر، أو الاستدلال..
إنما ما نصل إليه بالتدبر، والدراسة، هو: البيان، والاستنباط..
قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا (٧٨) أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا (٧٩) وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا (٨٠) فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا (٨١) وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا (٨٢) ﴾ الكهف.
لقد أوَّل العبد الصالح لسيدنا موسى ما رءاه من أحداث إلى معاني باطنة لا يعلمها موسى – عليه السلام -.
ونستنبط من قول العبد الصالح أنَّ هذا التأويل الذي بيَّن أسباب ما حدث؛ لم يكن من عند العبد الصالح؛ بل هو من عند الله؛ لأنَّه لا يعلم التأويل إلَّا الله وحده؛ ليتأكد لنا للمرة الثانية أنَّ تأويل القول والأحداث هو علم من عند الله، وليس من عند الإنسان.
فكيف يأتي في زماننا من يزعم علمه بتأويل القرءان، واستخراج المعاني الباطنة لآيات الله؛ ثم يُحرفها عن مرادها؟!
كذلك تأويل العبدُ الصالحُ لأحداث كانت قد تمت بالفعل؛ يُصوب رأي من يظن أنَّ تأويل الشئ، هو: حدوثه في المستقبل فقط!
لقد أوَّل العبدُ الصالحُ أحداثًا ماضية، وهذا لا شك فيه.
لكن سيدنا يوسف قام بعلم من الله بتأويل أحداثًا ستأتي في المستقبل.
إذًا التأويل يكون لأحداث قادمة، وكذلك لأحداث تمت في الماضي.
النبأ، والتأويل
لا يجب أن نخلط بين: النبأ، والتأويل؛ فالنبأ يُمكن أن يكون لأحداث في المستقبل؛ كأحداث يوم القيامة، وأحداث تمت في الماضي؛ كأحداث الأمم السابقة، مثل: نبأ قوم نوح ـ عليه السلام ـ الَّذين جاءت بعض أحداثهم في القرءان، بعد موتهم بآلاف السنين.
لقد وضع اللهُ للناس القول الفصل في نفي أنَّ البشر يُمكنهم تأويل القرءان؛
قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (٧) ﴾ آل عمران.
كما يتبيَّن لنا: الله ينهى عن تأويل المتشابه من القرءان؛ فما بالنا بمن يُؤول المحكم من القرءان؟!
من يعلم تأويل المتشابه من القرءان؟
إنَّ الله وحده هو من يعلم تأويل المتشابه من القرءان ـ كما نتبيَّن من الآية ـ.
وماذا عن الراسخون في العلم؛ ألَّا يعلمون التأويل؟
حين نتدبر القرءان يتبين لنا أنَّ الراسخين في العلم يؤمنون به؛ أي يومنون بما في القرءان من متشابه لا يعلمون معانيه الحقيقية بعد؛ كما ءامنوا بالمحكم الَّذي علموا معانيه البيِّنة(الظاهرة).
وهذا دليل على أنَّهم لا يعلمون تأويل القرءان؛ فلو كانوا يعلمون تأويله، ما قالوا: ﴿ ءَامَنَّا بِهِۦ﴾.
متى يأتي تأويل القرءان؟
قال اللهُ ـ تعالى ـ : ﴿ هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ (٥٣) ﴾ الأعراف؛ سيأتي تأويله يوم القيامة، وليس في الحياة الدنيا. فنحن في الحياة الدنيا نتيَّن ما في القرءان من حق، ولا نؤول القرءان.
إذًا البيان، وليس التأويل هو الذي نصل إليه بالتدبر.
ومعنى أنَّ القرءان ءاياته بيِّنات؛ أننا من خلال التدبر يمكن أن نستنبط المراد الحق من الآيات؛ فلا نختلف فيه؛ لذلك هي ءايات بيِّنات.
لهذا علينا تصحيح المفهوم من تأويل القرءان، إلى البيان في القرءان.
والله أعلم