من خلال البحث في ألفاظ القرءان، ودقتها، وتكاملها مع بعضها دون أدنى اختلاف بين الآيات؛ سُنفرق بإذن الله بين لفظي: (يُكمل، ويُتم) وما يُشتق منهما.
(يكمل، ويتم) من الألفاظ المتشابهة، والتي يظن الكثير من الناس أنهما متطابقان.
لكن حين نتدبر الآيات لنتبين دلالة كل لفظ منهما تظهر لنا معجزات بيانية لم نعلمها من قبل.
ساعدتنا في تبين جوانب تشريعية في القرءان الكريم، وكذلك يسرت علينا رد الكثير من الشبهات – ربما لأول مرة – ببلاغة تُبهت من يزعمون وجود تناقضات في القرءان.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) ﴾ البقرة.
لأنَّ الكلماتِ هنا ليست عددًا يحتاج إلى إكمال؛ بل هي قيم، ومعاني، وتطبيق لهذه الكلمات في حيات سيدنا إبراهيم؛ أتى معها لفظ (فأتمهن).
هنا تتجلى بلاغة البيان في القرءان، وتظهر لنا بالتدبر روائع الألفاظ، ودقة مواضعها..
لماذا؟
لو جاء: (فأكملهن) لتغير المعنى، واختل البيان.
لأن الكلمات هي قيم، وأمور نفسية ليست لها مقدارًا تُقاص به؛ فكان التعبير البيلغ: (فأتمهن) وليس: (فأكملهن) لآن الآية الكريمة تحدثنا عن اختبار نفسي..
إبراهيم – عليه السلام – يتم الكلمات التي ابتلاه بها رَبُهُ؛ فكانت اختبارًا له من الخالق.
وحينما أتمها كان ذلك دليلًا على أنَّ نفس إبراهيم – عليه السلام – من الأنفس الطيبة، ودلت على إيمانه بربه، وأنَّه ليس من المفسدين، ولا يحب الفساد.
لقد أتم اجتياز ذلك الاختبار بحبه للحق، وقدرته على التعقل، والتصرف بحكمة.
من بلاغة الآية أنها عبرت عن ذلك بلفظ: (فأتمهن) وليس: (فأكملهن).
فالإيمان يُتَم لأنَّه مقدار نسبي من المشاعر في القلب، يزيد وينقص.
الإيمان ليس شيئًا يحتاج إلى العدد.
وحين أتم سيدنا إبراهيم الكلمات (اختبار النفس) أصبح بنعمة من ربه، مُهيئًا للنبوة وتلقي الرسالة.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) ﴾ البقرة.
هنا أتى كلام الله عن النعمة فأتى معها لفظ: (ولأتم) وهو دليل على أنَّ النعمة تُقدر، ولا تُحصى عددًا (ذلك من بلاغة القرءان، ودقة ألفاظه).
وهل من أمثلة؟
نعمة السمع لا يُمكن إدراكها عددًا، ولكن هي مقدار أتمه الله علينا.
وحين تكلم اللهُ – تعالى – عن الدين قال: (أكملت) وليس: (أتممت).
نجد هذا في قوله – عز وجل – : ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ من الآية (٣) المائدة.
من بلاغة القرءان جاء اللفظان: (أكملت، وأتممت) في ءاية واحدة..
هل تظنوا أن هذا قولًا بلا مراد؟!
بل ذلك من بلاغة البيان في القرءان الذي يأتي باللفظ المناسب بدقة بالغة.
وكذلك نجد في هذا دليلًا على اختلاف دلالة كل لفظ منهما: أكملت، ليست أتممت.
لقد ذكر اللهُ – تعالى – ما حرمه؛ فكان ذلك من إكمال الدين، وليس من إتمامه.
لماذا من إكمال الدين، وليس من إتمامه.
حين نتدبر الآيات لنتبين دلالة كل لفظ يتبين لنا أنَّ الدين يحتاج إلى إكمال لأنَّه مجموعة من الأوامر، والنواهي، والشرائع التي حددها اللهُ – سبحانه وتعالى – لنعلمها ونطبقها في حياتنا. والأوامر، والشرائع، والنواهي؛ هي أشياء تخضع للعدد، وليس للإتمام لأنها ليست مقدارًا.
هذه الأوامر، والشرائع، والنواهي، والحدود لا تتغيير بمرور الزمن، وعلى المسلم أن يلتزم بها؛ فالدين من عند الله أكمله ورضيه لنا؛ فلا نزيد فيه، ولا ننتقص.
ذلك ما تبينه لنا الآية بشكل وجيز، وبلاغة شديدة عبرت عنها الألفاظ بإحكام، ودقة بالغة.
وكما نرى في الآية تم ذِكر لفظ: ﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ ليبين لنا اللهُ – عز وجل – أنَّ معنى الإكمال ليس هو ذاته معنى الإتمام؛ فالنعمة مقدار يحتاج إلى إتمام، ومن بين هذه النعم ومن أعظمها: الإيمان بالله.
أما أعظمها على الاطلاق؛ فهي رضوان الله علينا؛ ورضوان الله نعمة لا تُعد، ولا تُحصى.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) ﴾ الأعراف.
لفظ: ﴿ فتمَ ميقاتُ ربه ﴾ دليل على أنَّ موسى – عليه السلام – كان لديه ميقاتًا محددًا يأتي مع نهاية أربعين ليلة (فهو كان يعلم الوقت بدقة).
إنَّ الآية الكريمة تعبر عن مقدار زمني متتاليًا؛ فكان القول البليغ هو: ﴿ فتمَ ميقاتُ ربه أربعين ليلة ﴾ وليس: (فأكتمل ميقات ربه).
لماذا؟
لأن مراد الآية هو: تتابع الأربعين ليلة وليس انفصالها بليالي لا تكون ضمن المدة.
وننتقل لآية أخرى ذكرت لفظ (فأتموا) قال اللهُ – تعالى – : ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(٤) ﴾ التوبة.
لأنَّ العهد هنا له مدة محددة ينتهي بنهايتها دون أن تنقطع؛ لذلك جاء اللفظ المناسب للمدة المتصلة التي لاتنقطع حتى تنتهي تمامًا، وهو: (فأتموا).
كذلك يأتي لفظ: (يتم) مع الشئ الذي له مقدار، أو مع الشئ الذي لا يُمكن عده؛ وهو ما نتبينه من قول الله – تعالى – : ﴿ وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) ﴾ يوسف.
نلاحظ أنَّه عندما يتكرر لفظ: (نعمة) يأتي معه لفظ: (يتم) أو لفظ مُشتق من (تم).
ذلك من بلاغة البيان في القرءان؛ لأنَّ النعمة الواحدة ليست شيئًا قابلًا للتجزئ، فهي لا تُحصى؛ إنها شئ له مقدار ﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٨) ﴾ النحل.
ومن أمثلة ذلك
نعمة البصر لا يُمكن عدها عدًا؛ لأنَّها مقدار لا يستطيع الإنسان أن يُحصيه.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) ﴾ القصص.
أتممت تعني أنَّ الحِجج ستكون متتالية (غير منفصلة) حتى ينتهي عدد الحِجج (هنا عبر لفظ: أتممت عن العدد المتتالي الذي لا يفصل بين معدوداته).
إذًا لفظ: (يُتم) يأتي كذلك للشئ الذي يتم عده عدًا متتاليًا.
هل من مثل على ذلك؟
إذا قال طالب: سأُذاكر سبعة أيام تامة.
وقال طالب ءاخر: سأُذاكر سبعة أيام كاملة.
ما الفرق بين القولين؟
القول الأول الذي جاء فيه: (تامة) يعني أنه سيذاكر سبعة أيام متتالية؛
دون وجود يوم إجازة (فاصل).
مثلًا: يبدأ المذاكرة يوم السبت، وينتهي بنهاية يوم الجمعة.
أما القول الآخر: سأُذاكر سبعة أيام كاملة؛ يعني أنه سيذاكر سبعة أيام، ولكن ليس بشكل متتابع، ولكن سيُكملهم سبعة أيام.
لأنه أراد السبعة أيام، دون شرط أن تكون متتالية.
وسيكون لنا مزيدًا من البيان فيما بعد إن شاءالله.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ من الآية (٨) التحريم.
لا شك أنَّ النور مقدار، وليس شيئًا يتم تجزيئه؛ لأن النور لا يُمكن عده؛ لذلك فهو يُتم ولا يُكمل؛ وهذا من بلاغة البيان في القرءان، ودقة ألفاظه التي نتبينها بتدبر القرءان.
قال اللهُ – سبحانه وتعالى – : ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥) ﴾ النحل.
يالها من بلاغة ليست للبشر بمثلها.
نعم، فالأوزار جمع: (وزر) وهو الذنب، والمعصية؛ إنها تُعد لأن كل ذنب، ومعصية منفصل عن الآخر.
فالآية أرادت عدد الأوزار، وليس مقدار كل وزر.
ولا شك أنَّ قتل النفس بغير الحق هو وزر منفصل عن شهادة الزور التي هي وزر منفصل عن أكل المال بالباطل..
الذنوب، والمعاصي يتم عدها؛ لذلك جاء مع الأوزار لفظ: (كاملة) وليس: (تامة) لأن كل ذنب، منفصل عن الآخر.
ذلك من دقة الألفاظ، والبيان في القرءان، والتفريق المحكم بين: (يُكمل، ويُتم).
ومن الآيات التي ذَكرت لفظ: (يُتم) قول الله – تعالى – : ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ البقرة من الآية (١٩٦).
الأمر تعلق بمقدار زمني متصل؛ لأنه مدة محددة لها بداية ونهاية تنتهي عندها العمرة والحج.
وبالتالي لم تعبر عن عدد متقطع (ليس متتاليًا) يتم إكماله.
لكن نجد الأمر قد اختلف حين ذَكرت الآية عدد أيام الصيام؛ حيث ذَكرت معه لفظ: (كاملة) قال اللهُ – تعالى – : ﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ البقرة من الآية (١٩٦).
واحدة من الآيات التي زعم المبطلون أنها كلام بشر؛ حيث قالوا: لماذا جاءت: (كاملة)؟!
وهل تُوجد (عشرة كاملة) لتكون هناك عشرة ناقصة؟!
فزعموا أنها كلام بشر يخلو من البلاغة.
وقد تعددت الردود على تلك الشبهة قديمًا وحديثًا.
ومع اجتهادهم لم نجد الرد البليغ الذي يُبين المراد من قول الله: ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ وما به من بلاغة البيان المُعجز.
بل لم ينتبهوا إلى الجانب التشريعي في الآية الكريمة الذي لا نستنبطه إلَّا بتدبر القرءان.
ما نتبينه بتدبر الآيات الكريمة يدل على أنَّ القرءان هو كلام الله الذي أعجز البشر على أن يأتوا بمثله.
وليس كلامًا يتم النظر إليه دون تدبر؛ فيظنوا بالباطل أنه يحوي أخطاءً؟!
قول الله – عز وجل – : ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ لا نتبين بلاغته الرائعة إلَّا بتدبر القرءان، والتفريق المحكم بين لفظي: (يُكمل، ويُتم).
الآية تحوي تشريعًا يدل على بلاغة البيان في القرءان، ويدل على أنَّ القرءان هو كلام الله الذي لا اختلاف فيه أبدًا.
كيف ذلك؟
المُحرم يصوم ثلاثة أيام في الحج؛ هل سيصومها متتالية؛ أم متفرقة؟
فجاءت الإجابة ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾.
لفظ: (كاملة) لم يكن زائدًا؛ بل دلَّ على إحكام الله لآياته، وكيف فصل العليم الخبير ءايات الكتاب.
لقد بين اللفظ ببلاغة القرءان أنَّ الثلاثة أيام في الحج يتم صيامها متفرقة، وليس شرطًا أن تكون متتالية.
وكذلك الأمر بالنسبة للسبعة أيام بعد أن يرجع من الحج ستكون متفرقة، وليس شرطًا أن تكون متتالية.
وهذا هو الجانب التشريعي الذي عبر عنه لفظ: (كاملة) بدقة بالغة.
قول الله – تعالى – : ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ عبر عن كيفية صيام الثلاثة أيام في الحج والسرعة بعد الرجوع من الحج.
لذلك لم يقل الله: (تلك عشرة تامة)
ولو جاءت: (تامة) بدلًا من (كاملة)؛ لأحدث ذلك اختلافًا لا يكون أبدًا في كتاب الله.
كيف ذلك؟
انفصال الثلاثة أيام عن السبعة أيام الأخرى؛ إحداهما تكون في الحج، والأخرى بعد الرجوع من الحج نراه بيِّنًا (لا يحتاج لتوضيح)؛ لذلك لا يُمكن أن تأتي: (تامة) لأنها تدل على الأيام المتصلة، وليست المتفرقة.
لذلك جاء لفظ: (كاملة) لأنه هو اللفظ المناسب والذي يعبر عن مراد الله من الآية.
حيث بيَّنت لنا كيف يصوم المحرم الثلاثة أيام في الحج: يصومها مُتفرقة، وكذلك السبع. أيام بعد الرجوع من الحج: مُتفرقة، وليس شرطًا أن تكون متتالية.
فبين لفظ: (كاملة) في الآية ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ لنا مراد الله ببلاغة مُعجزة لا يقدر البشر على أن يأتوا بمثلها.
ومزيدًا من البلاغة البيانية في القرءان التي تفرق بإحكام بين لفظي: (يُكمل، ويُتم) ما نتبينه من قول الله – تعالى – : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) ﴾ البقرة.
نجد أنَّ كلام الله يُشير إلى أيام العدة التي انفصلت عن الشهر.
فمن بلاغة القرءان لم يأتِ: (ولِتكملوا العدة) ولكن جاء: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾ لتدل على إكتمال عدد أيام الشهر لمن أفطر بعذر المرض، أو السفر.
ذلك إكما وليس إتمام.
لماذا؟
لأن العدة لم تتصل بالشهر ولكن انفصلت عنه على الأقل بيوم العيد.
نتبين من ذلك أنَّ الصيام في اليوم
وماذا عن الصيام داخل اليوم الواحد هل إتمام أم إكمال؟
لأن صيام اليوم الواحد لابد أن يكون في مدة زمنية متصلة من الفجر إلى الليل (عبارة عن مقدار زمني متصل له بدابة ونهاية) قال اللهُ – تعالى – : ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾.
إنها بلاغة القرءان ليدل القول على أنَّ الصيام في اليوم الواحد لا يجوز قطعه وإكماله؛ بل لا بد أن يكون متصلًا حتى الليل.د؛ لذلك جاء لفظ يدل على المدة الزمنية المتصلة، وهو: (أتموا) وليس: (أكملوا) دون اختلاف في الآيات.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ البقرة من الآية (١٨٧).
وبصيغة أخرى
نلاحظ أنَّ في الآية جاء لفظ: (أتموا) وليس: (أكملوا) دليل على اختلاف معنى ومدلول كل لفظ منهما.
ويوضح أنَّ صيام اليوم يحتاج إلى إتمام؛ لأنَّه مدة متصلة غير متقطعة.
إنَّ دقة الألفاظ في القرءان تثبت أنَّ الإتيان بمثله مُحال؛ ليس لأنَّ الله أصرف الناس عن ذلك كما يقول البعض، ولكن لأنَّه ليس في مقدور الإنس، والجن أن يأتوا بمثل هذا القرءان، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
إنَّ البيان في القرءان بالغ الدقة والكمال بشكل يفوق قدرة المخلوقات، يتدبروه إلى أن تأتي الساعة.
والله أعلم.