في ذلك سيتبين لنا الدقة البيانية في القرءان الكريم التي تُعجز الإنس، والجن على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
قال اللهُ – تعالى – : ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ من الآية (١٩٦) البقرة.
طعن المُشككون منذ القدم في قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ تلك عشرة كاملة ﴾ فقالوا: ثلاثة وسبعة معروف أنَّ مجموعهم عشرة؛ فلماذا أتى: ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ ولماذا أتت كاملة بعد عشرة؛ فهل هناك عشرة كاملة، وأخرى ناقصة؟!
من الآراء التي حاولت استنباط سبب مجئ كاملة في قوله – عز وجل – : ﴿ تلك عشرة كاملة ﴾ القول بأنَّ حرف الواو في اللسان العربي يُمكن أن يأتي بمعنى (أو) فيكون القول وفقًا لهذا الرأي: ثلاثة أيام أو سبعة أيام.
ولأن (أو) تأتي للتخيير بين شيئين؛ ولإزالة هذا التوهم – حسب رأيهم – وإثبات أنَّ حرف الواو هنا ليس بمعنى (أو) في حال ظن الإنسان: هل يصوم ثلاثة أيام، أم سبعة؛ أي ظن أنَّ الواو هنا للتخيير بين الثلاثة أيام والسبعة؛ فجاء حسب قولهم ما يؤكد له أنها: (عشرة كاملة)
ولو أخذنا بأن الواو للتخيير؛ ألم يكفِ أن يأتي القول: (تلك عشرة) دون مجئ (كاملة) لأن (عشرة) ستبين المراد من الآية دون اختلاف؟!
إنما الواو في القرءان ليست للتخيير وبالتالي الآية لا اخيره بين صيام ثلاثة أيام، أو سبعة أيام؛ لأن الواو تفيد الجمع فقط.
رأي ءاخر؛ وهو أنَّ ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ فيها أتت (عشرة) بعد ثلاثة أيام، وسبعة أيام لتفيد التأكيد؛ أي تأكيد صيام عشرة أيام.
كذلك (كاملة) أتت للتأكيد على أنَّهم عشرة أيام.
وهذا الرأي أراه يضع في القرءان قولًا زائدًا ليس من القرءان في شئ.
ورأي ثالث قال: إنَّ كاملة بمعنى: (فاضلة).
ولكن هذا الرأي خلط بين لفظين حين أعطاهما دلالة واحدة.
وهذا ليس من دقة البيان في القرءان؛ لأنه بين وقاطع لئلا يختلف فيه الناس.
وءاخرون قالوا: (كاملة) أتت لتبين أنَّ جزاء من لم يجد الهدي فصام عشرة أيام بدلًا من الهدي؛ سيكون جزاؤه هو ذات جزاء من وجد الهدي، لا يُنتقص منه شيئًا.
لماذا للآية بيان ليس ما قيل؟
الواو للجمع، وليست للتخيير؛ وبالتالي القول: الواو يُمكن أن تأتي بمعنى (أو) لا يتوافق مع دقة الألفاظ في القرءان، وهذا الرأي لا يُمكن أن يتم الأخذ به، ولا يُمكن الإتفاق عليه.
أما كاملة بمعنى فاضلة؛ فهذا القول خلط بين لفظين؛ وهو ما لا يتوافق مع دقة الألفاظ في القرءان الذي يعطي كل لفظ دلالة خاصة به لا تكون لغيره؛ مما يعني أنَّ القول: (كاملة) بمعنى (فاضلة) سيختلف الناس فيه؛ لأن كاملة ليست بمعنى فاضلة.
والآن انتقل إلى الآية لنتبين من القرءان بإذن الله المراد منها، وكذلك الرد على أصحاب شبهة: أنَّ ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ عدم وجودها لن يغير معنى الآية؛ فهي زائدة، وليست من البلاغة!
تلك وجهة نظرهم؛ وهي بلا شك خاطئة، ويتبين لنا ذلك حين نتبين مراد الآية، وما بها من بلاغة تُثبت أنَّ القرءان هو كلام الله، وليس كلام بشر.
استنباط مراد الله؛ سيكون مبنيًا على موضوع: الفرق بين لفظي (يُكمل، ويُتم) وهو من الموضوعات التي تُبين دقة الألفاظ في القرءان، وتفرد كل لفظ بمعناه القاطع، وعدم تعارض الآيات الكريمة مع بعضها.
إنَّ من يُثير شُبهة حول كلام الله، ويزعم أنه كلام بشر؛ لم يقم ببناء رأيه إلَّا على شئ من اثنين:
إمَّا بسبب عدم تدبره للقرءان، أو أنه نظر إلى الآيات دون تأمل؛ فجعله يتوهم أنَّه اكتشف اختلافًا في القرءان (تعالى اللهُ عما يصفون).
وإمَّا لمرض في قلبه.
لقد فرقنا من قبل بين (يُكمل، ويُتم) وقلنا: إنَّ الإتمام يأتي مع المدة الزمنية المتصلة، أو مع الشئ الذي يتم تقديره ولا يمكن تجزيئه، مثل: النور، وكذلك النعمة؛ كنعمة السمع، ونعمة البصر، كما يأتي الإتمام مع الإيمان.
وقلنا في شأن (الإكمال) إنَّه يأتي مع الشئ الذي يُمكن فصله، وعدم تتابع معدوداته.
والآن ننتقل إلى قول الله – تعالى – : ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ من الآية (١٩٦) البقرة.
لقد أمرنا اللهُ بأن نتدبر القرءان، ونتفكر في ءاياته الكونية.
لماذا؟
لنستنبط الحق من كلامه – عز وجل – فلا نختلف فيه، لا نزيد عليه بقول ليس فيه، ولا ننتقص منه، ولا نبدل..
لأن الله فصل الآيات لنتبين منها مراد الله – تعالى -.
ذلك يأتي بالتدبر، وتوفيق الله – عز وجل -.
لكن من يُلقون بالشبهات حول القرءان؛ لم يجعلوا لأنفسهم نصيبًا من تدبر القرءان الكريم، واكتفوا بالظن، ونعلم أنَّ الظن لا يُغني من الحق شيئًا.
لقد بنوا رأيهم على الظن والهوى فغيروا في كلام الله ليحرفوه عن مراده.
ثم يُلقون الشبهات مثل ما فعلوا الآن؛ حيث قالوا: كان يمكن أن تكون الآية: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ ثم يتوقف القول لإكتمال المعنى دون الحاجة إلى ذِكر ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾!
هذا ظنهم حين لا يتدبرون القرءان!
ونحن نقول لهم: إنَّ قول الله – تعالى – :﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ هو قول مُعجز يدل على دقة بالغة في البيان،
لا يُمكن أن تكون من قبل بشر، ولا يستطيع الناس استنباطها إلَّا بتدبر ءايات القرءان.
إنَّ قول الله – تعالى – : ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ جاء في الآية الكريمة للكمال التشريعي، ولنتبين منه دقة الألفاظ، ودقة مواضعها التي تتجلى بفضل الله عند تدبر ءاياته.
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ قول بليغ، وليس زائدًا، لا يُمكن الاستغناء عنه؛ بل وجود ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ بيَّن تكامل التشريع الذي أنزله اللهُ لنا؛ لأنَّ كلام الله هو أكمل من أي رأي، ومن أي وهم يَظن صاحبُهُ أنَّه تعقل!
بلاغة البيان في القرءان اقتضت أن يأتي لفظ: ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ لتدل على كمال القرءان، الذي نتبينه حين نتدبر ءاياته.
وعودة إلى تبين لماذا أتت ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ بعد ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾.
في البداية نحن نعلم أنَّ مجموع ثلاثة أيام وسبعة أيام هو عشرة، فليس هذا مراد الآية.
إنما مراد الآية الكريمة هو: التشريع.. كيف ذلك؟
إن جاء لفظ في القرءان بدا أنَّه زائد؛ فهو ليس كذلك فليس في كلام الله تعالى زائد، أو ناقص؛ أو لفظ يُمكن استبداله بلفظ ءاخر من عند أنفسنا.
بل وراءه قصد، وحكمة إلهية، نتبين منها مراد الله تعالى لنا، وتُعجز في ذات الوقت من يزعمون أنَّه يمكنهم أن يأتوا بمثل هذا القرءان!
فتزيد المؤمنين إيمانًا بربهم – سبحانه وتعالى – ويؤمن من في قلبه خير، وهو يبحث عن الحق.
لو توقفت الآية حسب ظنهم عند لفظ: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ لأحدث ذلك اختلافًا في كيفية صيام الثلاثة أيام: هل سيصوم المِحرم الثلاثة أيام في الحج متتابعة؛ أم سيصومها متفرقة؟
وكذلك الأمر بالنسبة للسبعة أيام بعد الرجوع من الحج؛ هل ستكون متتابعة أم متفرقة؟
لذلك اقتضى كمال القرءان، وإحكام الله لآياته أن يأتي لفظ (كاملة) في الآية لنتبين الحق منها، والتشريع الإلهي.
وكيف يُمكن أن نتبيَّن ذلك؟
لفظ (كاملة) بيَّن لنا كيف نصوم الثلاثة أيام في الحج، والسبعة أيام بعد الرجوع من الحج.
نلاحظ أنَّه عندما أتى لفظ (كاملة) سبقها لفظ (عشرة)؛ لذلك لا يجوز هنا التوقف عند قول الحق: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ ثم يظن من من يحكم بالهوى أنَّ المعنى قد إكتمل!
عشرة أتت بسبب مجئ لفظ (كاملة)؛ لأنَّ (كاملة) هنا تصف الأيام العشرة.
ننتقل إلى سؤال ءاخر لنقترب من استنباط سبب وجود (كاملة) في الآية الكريمة: لماذا لم يأتِ لفظ (تامة) بدلَّا منها، وهل يمكن استبدال لفظ (كاملة) بلفظ (تامة)؟
أولًا: لفظ (تامة) يدل على أنَّ العشرة أيام ستكون متتابعة، ولا يُمكن أن تكون متفرقة – لا فاصل بين العشرة أيام -.
لذلك ومن بلاغة البيان في القرءان، ودقة ألفاظه؛ لم يأتِ لفظ (تامَّة) لأنَّ لفظ: (تامَّة) كان سيدل على تتابع العشرة أيام، وليس تفرقها.
وهذا لا يتوافق مع انفصال الثلاثة أيام في الحج عن السبعة أيام بعد الرجوع من الحج؛ لذلك جاء لفظ: (كاملة).
ومن أدلة أنَّ (كاملة) جاءت لتدل على أن أيام الصيام ستكون متفرقة، وليست متتابعة ما نستنبطه من قول الله – سبحانه وتعالى – : ﴿ ولتكملوا العدة ﴾ ولم يقل: (ولتتموا العدة) ذلك من دقة البيان في القرءان.
لأنَّ الأيام التي سيقضيها من أفطر في رمضان بعذر، إنفصلت عن شهر رمضان الذي انتهى؛ فأصبح هناك فاصلًا زمنيًا بين رمضان، والعدة التي تُكمل عدد أيامه، مثل فاصل: يوم العيد.
كذلك أيام العدة يمكن أن يصومها من أفطر بشكل متفرق إن أراد ذلك؛ وهذا يتوافق مع بلاغة لفظ: (ولتكملوا).
وفي قول الله – تعالى – : ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ جاء لفظ (كاملة)؛ لأنَّ الثلاثة أيام في الحج انفصلت عن السبعة أيام بعد الرجوع من الحج؛ فلا يمكن أن يأتي لفظ: (تامة) بدلَّا من (كاملة)؛ وهذا أول دليل في الآية على دقة كلام الله تعالى.
ما هو التشريع الذي نستنبطه من الآية؟
دقة التشريع الإلهي في الآية الكريمة كانت سببًا في مجئ (كاملة) للسبب الذي أوردناه من قبل وهو التساؤل: كيف سيكون صيام الثلاثة أيام في الحج والسبعة أيام إذا رجعتم؟
هل سيكون صيام الثلاثة أيام متتابعة أم متفرقة، وكذلك السبعة أيام متتابعة أم متفرقة، أم يجوز كلاهما؟
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ لم تكن زائدة، أو غير بلاغية، ولا يُمكن استبدالها بلفظ ءاخر.
إنها دلت على أنَّ القرءان هو كلام الله، وليس كلام بشر؛ حيث بينت ببلاغة رائعة أنَّ صيام الثلاثة أيام في الحج تكون متفرقة، وكذلك السبعة أيام بعد الرجوع تكون متفرقة؛ لذلك أتى قول الله – تعالى – : ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾.
الهدف من عدم تتابع صيام الثلاثة أيام في الحج؛ هو التخفيف على المحرم، وكذلك التخفيف عنه عند صيام السبعة إذا رجع من الحج.
وبذلك نخرج من دائرة الاختلاف التي قد تنشأ: هل الأيام متتابعة، أم متفرقة؟
كذلك يمكننا تبين أنَّ القرءان يحتوي على تشريع بالغ الدقة ليس للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله، وما ظنه البعض أنَّه خطأ في القرءان؛ يتبين حين نتدبر القرءان أنَّه بلاغة بيانية في القرءان الكريم لا تكون إلَّا من الخالق – عز وجل – الذي لا يترك البشر في حيرة، ولكن هم من يقعون فيها بأنفسهم إذا ضلوا سبيل الحق، وضربوا صفحًا عن تدبر القرءان الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والله أعلم