Detailed image of an open Quran with prayer beads, symbolizing Muslim culture and spirituality.

موسى و العبد الصالح

الهدف هو تبين كيفية تبين، وتفسير القرءان الكريم بشكل يتوافق مع الحق؛ لئلا نذهب بمعاني القرءان الكريم بعيدًا عن مُرادها.

حينئذ يُمكن أن نتعلم من القرءان ما يجعلنا نرتقي في حياتنا إلى الأفضل.

وسنتبين كيف ستظهر حكمة الله – تعالى – في الأحداث التي مر بها موسى – عليه السلام -.

وكيف على الإنسان أن يطلب العلم، ولا يغتر بما لديه، أو يكتفي به وكأنه بلغ ماليس بعده شئ.

موسى نبي من أولي العزم، يتلقى الوحي من الله دون ملك رسول، لم يتكبر وسعى لطلب العلم من العبد الصالح.

وكيف يتكبر وهو من الأخيار؟!

إنَّ في ذلك عبرة لنا وموعظة؛ لنسلم لقضاء الله – تعالى – وما قَدَّره لنا في كل ما يمر بنا من أحداث، البعض يظن أنَّها ليست في صالحه، أو جعلته يخسر الكثير!

فمن يجد أنَّ الرزق قد ضُيِّق عليه يجد نفسه قد وقع في دائرة من الحزن أُحكمت عليه؟!

ومن مات له عزيز عليه قد يرى أنَّ في ذلك نهاية العالم، أو من يفقد وظيفته، أو يخسر في تجارته، كأنه وقع أسيرًا لليأس، وغيرها من أمور الحياة، التي لا يعلم الناس حكمة الله – تعالى – منها. ربما لا ندري أين الخير من وجهة نظرنا، لكن حقًا الخير فيما قضاه الله – تعالى -.

فلو علموا أنَّ ما يصيبه هو من قضاء الله – سبحان وتعالى – وأنَّ قضاء الله كله خير، لصبروا، واطمأنت قلوبهم.

لقد جسدت قصة سيدنا موسى، والعبد الصالح الكثير من القيم الرائعة..

هو عبد الله الذي سيُقابله موسى – عليه السلام – وموسى نبي من أولي العزم، جاءه بإصرار ليتعلم منه بتواضع الأنبياء.

قال اللهُ – تعالى – : ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) ﴾ الكهف.

من الواضح إصرار موسى – عليه السلام – لمصاحبة العبد الصالح ليتعلم منه مما ءاتاه اللهّ – تعالى – وهو يرد على فتاه الذي يبدو أنه ظهر عليه اليأس من مقابلة العبد الصالح الذي يبحث عنه سيدنا موسى؛ وهذا يُبين بدوره طول الوقت، والمسافة التي يقطعانها في سبيل ذلك..

﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١) ﴾ الكهف.

كان ذلك نقطة التحول في البحث عن من أراد موسى أن يتعلم منه مما ءاتاه اللهُ.

إنها لحظة اقتراب مقابلة العبد الصالح؛ تلك اللحظة التي أتت بعد وقت طويل من البحث حتى بدأ اليأس يظهر على فتى موسى – عليه السلام -.

لكنها أتت بعد إصرار موسى، وشدة صبره في البحث عن العبد الصالح حتى يتعلم منه.

هي تعلمنا أنَّ الإنسان المؤمن الذي يصبر قاصدًا وجه الله سيجد رحمة الله قد مسته جزاءً على صبره، ويطمئن قلبه أنَّ الله لن يخزيه.

﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا (٦٢) ﴾ الكهف.

بعد أن حل بهما التعب الشديد، أراد موسى الغداء لمواصلة الرحلة.

﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا(٦٣) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا(٦٤) ) الكهف.

ظهرت علامات إيجاد العبد الصالح..

هذا ما يُريده موسى – عليه السلام – فارتدا من حيث جاءا يتبعان ءاثارهما لكي يصلان إلى مكان اختفاء الحوت.

﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا(٦٥) ﴾ الكهف.

لقد كانت تلك هي لحظة تحقيق موسى لجزء من هدفه؛ وهو أن يجد العبد الصالح.

فبعد أن رجع سيدنا موسى إلى مكان اختفاء الحوت، وجد الرجل الذي كان يبحث عنه طوال الرحلة، ذلك هو الرجل الذي سيُعلمه من العلم الذي ءاتاه اللهُ.

ونتعلم نحن أنَّ العلم يستحق أن يجتهد الإنسان في طلبه، ولا يتكبر على من يعلمه، ولا يكتفي بما لديه من علم.

﴿ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(٦٦) ﴾ الكهف.

موسى يحتاج إلى أن يتعلم من إنسان وهو يتلقى الوحي مباشرة من الله – تعالى -.

لقد بين اللهُ لموسى، ولنا أنَّه مهما إن بلغ من علم فهو لا يعلم الكثير.

﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) ﴾.

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) ﴾ الكهف.

العبد الصالح يسبق رد فعل موسى على ما يُمكن أن يراه من أحداث لا تستوعبها النفس البشرية، ولا يُمكن أن يصبر عليها.

وكيف يصبر على ما سيرى، وهو لم يُحط بها خبرًا؟!

نعم كيف سيصبر موسى على أحداث قدرية جاءت عن طريق العبد الصالح بعلم من الله، وموسى – عليه السلام – لا يعلم أسبابها.

إنَّها أحداث تُبين بعضًا من حكمة الله التي تأتي لصالح الإنسان، ولكن الناس يجهلون أسبابها.

إنه تفسر لأحداث القدر الذي يُؤول تلك الأحداث على حقيقتها التي يعلمها اللهُ، ويجهلها الناس، وأنَّ كل ما نمر به له أسباب قدرها اللهُ – تعالى – بحكمته.

موسى سيتعلم بعض الأمور التي لا يعلمها، والتي لا يعلمها البشر.

ولا تظهر له في حياته؛ لأنَّها تتعلق بقدر الله في مجريات الأحداث، ونحن بدورنا نتعلم من العبر، والمواعظ الكثيرة التي في القرءان التي كانت للأُمم السابقة ما يُفيدنا في حياتنا، ويُعيننا على الصبر في المحن، ويُعلمنا ألَّا نأسى على ما فاتنا، ظانين أنه خيرًا لنا، وهو شر عفانا اللهُ منه بحكمته، ورحمته.

فالعلم الذي أتى موسى – عليه السلام – لم يكن من علوم الأسباب التي يُمكن أن نصل إليها؛ إنَّه علم يختص بِقَدَر الله – تعالى – وقضائه، وحكمته في الأحداث، وما يتعلق منها بحياة الناس.

والعبرة التي نأخذها من الأحداث هي: أن نتعلم أن نطمئن لقضاء الله مهما كان يبدو لنا أنَّه ليس في صالحنا.

ماذا قال سيدنا موسى للعبد الصالح؟

﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) ﴾ الكهف.

يعده موسى – عليه السلام – أنه سيجده صابرًا إن شاء الله، فهو لا يعلم ما سيراه من أحداث لا تتوافق مع علمه البشري المحدود.

﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠) ﴾ الكهف.

كان هذا طلب العبد الصالح من موسى، لكن سيدنا موسى لن يستطيع أن يصبر مما سيراه.

﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ انطلق العبد الصالح وموسى – عليهما السلام – حتى ركبا سفينة.

لكن فعل العبد الصالح شيئًا لم يخطر ببال سيدنا موسى؟!

﴿ حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾

تعجب موسى من فعل العبد الصالح،

فلم يتمالك موسى – عليه السلام – الصبر على هذا الفعل الذي ظهر أنه ضرر بأهل السفينة؛ بل ومحاولة لإغراقهم؛ فسأل الرجل مستهجنًا فعلته فقال له: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾؟!

موسى هنا يُمثل النفس السوية التي ترفض العبث بحياة الناس، وحقوقهم؛ دون أن يسأله: هل هؤلاء الناس مؤمنين، أم لا؛ بل تعجب، ورفضت نفسه هذا الفعل في حق الأبرياء دون النظر إلى أديانهم.

وهذا ما نتبينه من عظمة الإسلام الذي يُحافظ على حياة الناس المُسالمين، وعلى حقوقهم دون النظر إلى كونهم يؤمنون بالله، أم لا.

هذا ما نتعلمه من رد فعل نبي من أولي العزم.

ماذا قال العبد الصالح لسيدنا موسى؟

قال له: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) ﴾ الكهف.

وكأن العبد الصالح يُذكر سيدان موسى أنه صدق حين قال له: لن تستطيع أن تصبر على ما سترى.

لماذا تنبأ العبد الصالح بعدم قدرة سيدنا موسى على أن يصبر على ما سياره؟!

لانَّه لا يتوافق مع علم سيدنا موسى.

قال له موسى بعلمه المحدود الذي لم يُحط بعلم القدر مُستنكرًا ما فعله العبد الصالح قائلًا: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾؟!

هذا ما في علم موسى، الذي يجهل علم القدر، وحكمة الله، وعلمه ليتبين تأويل (سبب) خرق السفينة.

ربما أهل السفينة حزنوا على ذلك.

لكن لم يعلموا أنَّ قدر الله كان بهم رحيمًا؛ نعم لقد لطف اللهُ بهم، وجنبهم ضياع السفينة عن طريق الملك الذي لا يترك سفينة في طريقه.

هذا يعني في علم الله: أنَّ خرقَ السفينة؛ ثم إصلاحها أهون من ضياع السفينة (كلها).

ولو كان أهل السفينة يعلمون تأويل ما حدث (أسباب ما حدث أنه في صالحهم) لأدركوا أنه خير لهم، وليس شرًا لهم.

وهذا من مواعظ القرءان التي نتعلم منها أنَّ قدر الله كله خير للمتقين.

هذا مالم يعلمه موسى، وقد استنكره لأنه جاء من العبد الصالح، وخفي عليه تأويل ما حدث من خرق السفينة.

إنَّ تأويل الأحداث هو معرفة أسباب حدوثها (لماذا تحدث؟).

وذلك ما يجهله الناس؛ لماذا حدثت هكذا؟!

مثل: لماذا خسر إنسان في تجارتهم، وذلك أُصيب بمرض، أو فقد بصره، وذلك فقير، وغيرها من الأحداث التي يجهل الناس أسباب حدوثها في علم القدر الذي يعلمه اللهُ وحده، الذي يُعرف بتأويل الأحداث.

ولكن إذا تيقنوا أنَّ كل ذلك من قضاء الله؛ لأدركوا أنه خير مما يتمنون حدوثه، ولحمدوا ربهم على قضائه.

بعد أن قال العبد الصالح لسيدنا موسى: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) ﴾؟!

إعتذر موسى – عليه السلام – للعبد الصالح لأنه نسي وعده له: أنه لن يسأله عن شئ حتى يُحدثه العبد الصالح عنه؛ فقال له موسى – عليه السلام – : ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) ﴾ الكهف.

ثم مر موسى بحدث ءاخر، وهو: قتل غلام دون سبب ظاهر له؛ فاستنكر سيدنا موسى بطبيعته البشرية ما فعله العبد الصالح..

لقد نسيَ موسى للمرة الثانية وعده للعبد الصالح ألَّا يسأله حتى يُحدثه هو بما يمر به من أحداث؛ فيُبين له أسباب حدوثها.

﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤) ﴾ الكهف.

لم يصبر موسى على قتل نفس زكية؛ لأن ذلك يُخالف علمه، ولشدة ما حدث؛ نسيَ موسى – عليه السلام – وعده للعبد الصالح للمرة الثانية.

وكيف يصبر على ما لم يُحط به خبرًا؟!

قال العبد الصالح: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) ﴾؟!

للمرة الثانية يُذكره العبد الصالح بوعده له أنه لن يسأله حتى يحدثه هو بأسباب (تأويل) ما حدث.

لقد أيقن العبدُ الصالح من قبل؛ أنَّ موسى لن يستطيع تنفيذ وعده له فيصبر بسبب شدة ما سيراه، ووقعه على نفسه البشرية، لأنه لا يُحيط بتأويل ما سيحدث الذي هو من علم الله وحده.

قال له موسى: ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) ﴾ الكهف.

يعتذر موسى عليه السلام للمرة الثانية، ويعده أنه إن سأله مرة أخرى لا يُصاحبه.

﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) ﴾ الكهف.

حين رفض أهل القرية أن يُضيفوهما وهما لا يمتلكان مالًا لشراء الطعام؛ سأل موسى – عليه السلام – العبد الصالح أن يتخذ أجرًا مُقابل بناء الجدار لو شاء.

وهنا يكون سيدنا موسى قد خالف قوله بأنه لن يسأله عن شئ حتى يُخبره به العبدُ الصالحُ؛ لماذا أقام الجدار، ولم يتخذ عليه أجرًا؟!

فقال له العبد الصالح: ﴿ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) ﴾ الكهف.

هنا بدأ العبد الصالح يُنبِّئ سيدنا موسى بأسباب ما فعله من أحداث لم يستطع موسى – عليه السلام – أن يصبر عليها.

وسيكون ذلك هو المراد بتأويل الأحداث الذي يُفسر، ويُبين لسيدنا موسى أسباب ما رءاه من أحداث لم يتقبلها عقله، ولا علمه.

ذلك التأويل، وكل تأويل حق؛ لا يكون إلَّا من عند الله وحده، عالم الغيب.

العبد الصالح أنبأ موسى ما أُوحي إليه من عند الله ليُفسر، ويُبين لسيدنا موسى أسباب ما حدث؛ فقال له

: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ٧٩) ﴾ الكهف.

من بلاغة البيان في القرءان أنَّ العبد الصالح نسب خرق السفينة إلى نفسه.

﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١) ﴾ الكهف.

إنه علم القدر وكيف يُقدر اللهُ الأحداث بين خلقه: (فخشينا) فالذي يخشى هو المخلوق (فأردنا) عادت على العبد الصالح والملائكة بعد إرادة الله – تعالى – التي تُنظم شئون الخلق بما يعود عليهم بالخير الذي قدره اللهُ لهم بحكمته، ورحمته: ﴿ أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ الكهف.

﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢) ) الكهف.

قال: ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ لقد نسب العبد الصالح الإرادة الخالصة لفعل الخير، والرحمة لله – تعالى – وحده.

ماذا نستنبط من الآيات الكريمة؟

الآيات الكريمة تتحدث عن التأويل، الذي ربطته بالنبأ؛ لأنَّه علم غيب من عند الله، لن يتوقعه موسى – عليه السلام – فكان بالنسبة له نبأ.

نعم ما رءاه موسى هو تأويل الأحداث كما هي في علم القدر الذي لا يعلمه إلَّا اللهُ وحده.

فكيف يصل إليه دون أن يأتيه علمًا من الله؟!

ولأنَّها كانت أحداثًا قَدَرية تُخفى حكمة الله منها على الناس؛ نجد أنَّ نبى الله حين كان لا يعلم أسبابها التي قدرها اللهُ بحكمته، ورحمته؛ اتبع سيدنا موسى نفسه البشرية، وما لديه من علم، ولم يصبر، أو يتذكر وعده للعبد الصالح.

لأنَّ موسى – عليه السلام – حكم عليها بعلمه المحدود؛ فلم يتحملها؛ أو يصبر عليها..

وكيف يستطيع أن يصبر عليها؛ وقد أُخفيَ عنه تأويلها الذي هو من علم الله وحده؟!

لقد ظهرت حكمة الله وتقديره للأمور التي تسمى: (القدر) عن طريق أفعال العبد الصالح الذي كان ينفذ ذلك بعلم من الله – تعالى – ولكن لم يعلم سيدنا موسى ذلك؛ فلم يصبر.

أفعال العبد الصالح كانت بأمر من الله، ليتعلم منها موسى ويتعلم منها الناس أنَّ الخير في قضاء الله – تعالى -.

وكانت أحداثًا خاصة اقتصرت على ما أُوحي للعبد الصالح فقط.

هذا يعلمنا أنَّ القَدر لو ظهر لنا لرضينا به، فحكمة الله، وقضائه أعلى من تمنياتنا، أو مما نرى ونريد.

إنها تعلم المؤمنين، والناس أنَّ قضاء الله هو الخير، وليس ما يتمنونه بعلمهم المحدود الذي يجهل الأسباب.

فعلينا بصبر المؤمن حتى يأتينا تأويلها يوم القيامة، وسنعلم بإذن الله أنها كانت خيرًا لنا، ولم تكن شرًا أبدًا.

من مواعظ، وعبر الأحداث التي يتعلم منها الناس:

رد فعل موسى – عليه السلام – وتعجبه كان على ظاهر الحدث.

لماذا؟

لأنها بدت أنها تعارضت مع علمه الظاهر، ولم يخطر بباله الأسباب الباطنة الحقيقية لِمَا حدث،أو أنها من عند الله الذي قدر الخير فيها.

حتى أنبأه العبدُ الصالح بما أتاه اللهُ من علم، قال: ﴿ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) ﴾ الكهف.

فأنبأه بأسباب (تأويل) ما حدث، وهي أسباب باطنية تفسر الأحداث، لا يعلمها إلَّا الله وحده: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢) ﴾ الكهف.

إنَّه علم من عند الله – سبحانه وتعالى – لا يقدر على تقديره بشر؛ حيث قال: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢) ﴾.

إنَّه تأويل من عند الله، نقل المعاني الظاهرة إلى معاني باطنة فكانت حقًا.

ولنا في قصة موسى – عليه السلام – موعظة، وعبرة لمن يظن أنَّ التأويل في مقدور البشر في أي وقت.

موسى نبي الله، ومع ذلك لم يكن قادرًا على استكشاف حقيقة ما كان يحدث أمامه من العبد الصالح.

بل ظل موسى – عليه السلام – مُتعجبًا، ومُستنكرًا أفعال العبد الصالح.

وكلما مر بحدث يُخالف علمه الظاهر؛ تزداد حيرته، لدرجة أنَّه كان ينسى في كل مرة وعده للعبدُ الصالح بألَّا يسأله مرة أخرى عما يفعل.

ولكن موسى ببشريته، وعلمه المحدود، لا يستطيع صبرًا حتى يأتيه نبأ ما يرى من أحداث لا تتوافق مع علمه البشري الظاهر.

إنَّها حكمة من الله – تعالى – نتعلم منها ألَّا نحكم على أفعال الله بعلمنا المحدود، ولا نستعجل تأويل كل ما نعجز عن تفسيره في الحياة الدنيا. فموعد الناس يوم القيامة، حين يأتيهم تأويل كل ما لم يستطيعوا عليه صبراً، مثل ما جاء موسى – عليه السلام –

الذي لم يستطع أن يُؤول الاحداث التي رءاها على ظاهرها، وأثارت تعجبه، واستنكاره.

إنَّ موسى المرسل من الله؛ لم يرى الأحداث على حقيقتها الباطنة، التى يعلمها الله وحده، حتى أنبأه العبدُ الصالح الذي ءاتاه اللهُ علمًا بحقيقة ما حدث.

فكيف يزعم البعض أنهم يتمكنون من تأويل علم الله سواء أحداثًا أو ءايات القرءان؛ دون وحي ءاتاهم من عند الله – تعالى – ثم يقولون: إنه الحق الذي أراده اللهُ تعالى؟!

من أين لهم بهذا؟!

لقد خلطوا بين البيان، والتفسير الذي يجتهد الناس في استنباطه بحكمة من الله، وبين التأويل الذي يفسر أسباب الأحداث والذي لا يعلمه إلَّا اللهُ وحده. أو تأويل كلام الله بيِّن الدلالات إلى معاني باطنية ليس لهم بها من علم.

إنَّ البيان، والتفسير للبشر بحكمة الله، وإرادته.

لكن التأويل الذي يُغير المعنى الظاهر البيِّن للكلام، والأحداث إلى معاني باطنية؛ هو: لله وحده.

فعلينا أن نفرق بين: (البيان، والتفسير) الذي يُمكن للبشر؛ لأنه يدرس ظاهر القول، والأحداث..

وبين: (التأويل) الذي لا يكون إلَّا لله – تعالى – لأن التأويل معاني باطنية لا يدل عليها الكلام، أو الأحدث.

مع ازدياد العلم البشرى، فإنًّ تبين ءايات القرءان، وتفسيرها لن يتوقف إلى أن تأتي الساعة.

وهذا يجعلنا نُفرق بين التفسير والتأويل؛ فالتأويل هو ضياع للتفسير الحق لآيات القرءان المتشابهة فقد أكَّد اللهُ – سبحانه وتعالي – أنًّ تأويله المتشابه من القرءان (أي المعاني الباطنية للأحداث) سيأتي يوم القيامة، فلا يزعم بشر أنَّه يُؤول كلام الله ظنًا منه أنَّه تفسير، أو أنه نقل المعنى الظاهر إلى معنى مجازي؟!

قال اللهُ – تعالي – : ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) ﴾ الأعراف.

والله أعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart