ذُكر في القرءان الكريم ألفاظ متعلقة بالرؤية، مثل: يرى، يُبصر، بصير، مُبصرة، ينظر، ناظرة…وألفاظ متعلقة بكيفية حدوثها، مثل: يدرك، فؤاد، عين، أُذن..
لذلك فإن التفريق بين تلك الألفاظ يحتاج بحثًا ليس بالقصير، لا يناسب الموضوعات العابرة.
في البداية
جاء في القرءان لفظي: ( يَنظر، يُبصر) ولأن الألفاظ المختلفة في القرءان لا تتطابق في الدلالة؛ إذًا دلالة النظر لا يمكن أن تكون هي ذاتها دلالة البصر.
ما الدليل على أنَّ النظر ليس هو البصر؟
ما نتبينه في قول الله – تعالى – : ﴿ وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ لَا يَسۡمَعُواْۖ وَتَرَىٰهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ وَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ (١٩٨) ﴾ الأعراف.
إنها ءاية بالغة الدقة، والإحكام؛ فرقت بين: النظر، والبصر، وأعطت لكل لفظ منهما دلالته.
نعم، في هذه الآية ما يؤكد اختلاف اللفظين، ويبين أنَّ النظر يسبق البصر في حدوثه، والبصر لا يتحقق دون النظر..
بما أنك تقول: إنَّ البصر لا يتحقق إلَّا بعد النظر؛ فلماذا جاء لفظ البصر منفيًا، وجاء لفظ النظر مثبتًا؛ أليس ذلك دليل على أنك مُخطئ في رؤيتك؟!
سأُجيب على هذا التساؤل الإفتراضي خلال البحث، وسنتبين كذلك؛ لماذا جاء حرف الياء في لفظ: ﴿ يَنظرون ﴾ مفتوحًا، وجاء في لفظ: ﴿ يُبصرون ﴾ مضمومًا؟
وكذلك سنتبين دقة كلام الله في الآية الكريمة..
والآن:
لكي يحدث البصر فلا بد أن يسبقه النظر (ولا محالة في هذا).
ما هو النظر من خلال تدبر ءايات القرءان؟
لقد خلط البعض بين النظر، والبصر إلى الدرجة التي جعلتهم يظنون أنَّ لهما دلالة واحدة.
وءاخرون لم يعطوهما دلالة واحدة.. ولكن:
منهم من فرق بينهما بشكل نسبي. ومنهم من فرق بينهما تفريقًا كاملًا، لكن جعلوا لكل لفظ منهما دلالة ليست كما جاءت في القرءان.
ومن أمثلة ذلك القول بأن النظر هو: رؤية الأشياء بدون التركيز فيها..
أما البصر فهو رؤيتها بتركيز..
ولكن أراهم عكسوا الدلالة الخاصة بكل لفظ منهما..
كيف ذلك؟
النظر لا يعني فقط توجيه العين إلى الشئ المراد رؤيته، ولكن توجيه العين إليه باهتمام، وتركيز شديدين؛ ليتمكن الإنسان من رؤيته بعد إدراكه في الفؤاد.
وفي حال تم توجيه العين إلى الشئ دون اهتمام، أو تركيز؛ فلن يحدث النظر؛ وبالتالي: لن يُبصر الإنسانُ الشئ؛ حتى إذا كانت عينيه متوجهتان إليه.
يتبين لنا مما سبق: أنَّ توجيه العين (بحد ذاته) لا يعني حتمية تحقق الرؤية.
لماذا؟
لأن الإنسان قد يبدو أنه ينظر إلى الشئ الذي تتوجه إليه العين، ولكن في ذات الوقت شارد الفؤاد فنقول بالتعبير الدارج: شارد الذهن؛ لا يرى الشئ مع أنَّ عينيه موجهتان بالفعل إلى الشئ (وهذا يحدث كثيرًا).
فليس النظر هو توجيه العينين فقط ناحية الشئ، ولكن التركيز فيه.
فقول الله – تعالى – : ﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨) ﴾ الأعراف؛ يُبين لنا أنه بدا للنبي – عليه الصلاة والسلام – أنهم ينظرون إليه، ولكن في الواقع لا ينظرون إله حقًا
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ لاحظوا دقة البيان حين نسب الله الرؤية للنبي بقوله: ﴿ وَتَرَاهُمْ ﴾ أي أنت أيه النبي ﷺ من تراهم ينظرون إليك، وهم في حقيقة الأمر لا ينظرون إليك حقًا لذلك لم يتم البصر..
﴿ وَتَرَاهُمْ ﴾ الفعل وقع من النبي؛ فهو الذي يراهم ينظرون إليه، لكن في حقيقة الأمر هم لا ينظرون إليه حقًا، لا يهتمون بما يقول؛ لذلك لم يبصروا النبي ﷺ (الأعين موجهة فقط دون تركيز..) .
من بلاغة الآية يتبين لنا أنَّ الإبصار لا يتحقق بتوجيه العينين فقط، ولكن
لا بد من الاهتمام، والتركيز..
وذلك ما نسميه (النظر) أي أنَّ لفظ: (التركيز) الذي جاء في اللهجات العربية، ولم يأتِ في كتاب الله؛ يقابله في القرءان لفظ: (النظر).
وحين ينظر الإنسان يتحقق البصر.
هل يتوقف الإبصار فقط على النظر، أم أنَّ هناك أمور أخرى لا بد من توافرها؟
لكي يتم النظر وبالتالي يحدث الإبصار؛ لا بد من وجود: الإدراك؛ والإدراك هو ما يجعل الإنسان واعيًا بما حوله؛ وهذا يفسر لنا: لماذا الإنسان في سكرة الموت ليس واعيًا بمن حوله (بمن هم في الحياة الدنيا) لأنه فقد الإدراك بما حوله في الحياة الدنيا؛ فلم يعد
نظره موجهًا إليهم؛ عكس ما هم يظنون حين يرون العين وكأنها تراهم، وهي في الحقيقة لا تراهم؛ وبالتالي: لا يحدث البصر، ولا يسمعهم، ولا حتى يحس بهم.
إنَّما يتوجه نظره، وإدراكه (دون إرادته) إلى ملائكة الموت؛ فلا يسمع ولا يُبصر غيرهم.
مما سبق؛ فإن النظر، والبصر لا يعملان دون إدراك (يعقبهما) ..
أين يحدث الإدراك؟
الإدراك مكانه الفؤاد الذي يعني بالتعبيرات الدارجة: المخ، الذهن..
أي أنَّ مكان الفؤاد في رأس الإنسان، وليس صدره؛ لأن الفؤاد لي هو مكان المشاعر (القلب) .
ومن خلال الوسائل التي جعلها الله – تعالى – في الفؤاد؛ يمكن للفؤاد أن يقوم بما يلي:
جمع العلم، والتذكر، والتفكر، والتخيل، واستنباط دلالات الألفاظ، وفقه القول، وفهم الرأي (ما يراه الإنسان) وغير ذلك من تلك الأمور التي تكون مصحوبة بالتعقل (الذي مصدره القلب).
لأنَّ العقل هو ما يُعطي الفؤاد تذوق دلالات الألفاظ، والرؤية، وذلك في محيط علم الإنسان (فيمكن للعقل أن يتبين وجود الخالق، وما هو من الأمور الغيبية كيوم القيامة، والجنة، والنار من خلال العلم) .
والعقل لا يعمل إلَّا في عالم الشهادة؛ لأنه دائمًا يحتاج للعلم ليعقل الإنسان.
ما دور الفؤاد بالنسبة للإنسان؟
أن تُصنع بداخله الرؤية بعد إدراك مقدماتها.
النظر (التركيز) الذي يسبق السمع، والبصر، والحس؛ الغاية منه هي: أن يرى الإنسانُ نتيجة ما قام بجمعه من علم في فؤاده.
مثلًا: إذا نظر الإنسان إلى قول..
وهل الإنسان ينظر إلى القول؟!
نعم، القول يحتاج إلى نظر ولو كان ذلك القول يأتي عبر الصوت.
لأن النظر هو التركيز الذي يتحقق به: السمع، والبصر، والحس.
قال الله – تعالى – : ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) ﴾ الصافات.
هل كان يقصد النظر بالبصر أم النظر في القول؟
نعم النظر في القول.
ذلك يدل على أنَّ النظر لا يعني البصر، أو أنَّ النظر هو توجيه العين فقط.. إنَّ النظر إلى القول يجعل القول يصل إلى الفؤاد؛ وحينها سيدرك؛ وإذا أدرك؛ سيرى؛ وإذا رأى: يمكن للنفس حينئذ أن تتخذ القرار.
كل ذلك يتم داخل الفؤاد حسب قدرة كل إنسان على استغلال ما عنده من وسائل، مثل: الاستنباط، والتفكر، والفهم..
وكذلك حسب المؤثرات الداخلية والخارجية (حتى الصحية منها) التي تؤثر فيه، وحسب ما ترغبه النفس.
ذلك يكون مصحوبًا بالتعقل؛ ليتذوق الدلالات (منذ بداية النظر حتى نهايته) ليصنع الإنسان رؤيته (متأثرًا بما ترغبه النفس).
ولكن القرار في النهاية قد لا يتوافق مع العقل.
ومختصر ذلك
تُصنع الرؤية داخل الفؤاد؛ من خلال: الإدراك، والاستنباط، والفقه، والفهم.. كل ذلك يكون مصحوبًا بالتعقل..
أما القرار يكون من النفس (حسب رغبتها) و كذلك حسب تأثرها بالعقل (في حال تأثرت به) وتأثرها بالإيمان (إن وُجد في النفس) .
لقد بين لنا قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (١٠٢) ﴾ ببلاغة معنى النظر الذي لم يجعله قاصرًا على توجيه العين فقط.
تلك الآية الكريمة تحوي من الأدلة ما يُثبت أنَّ النظر لا يعني البصر؛ لأن سيدنا إسماعيل لن يرى كلام أبيه رؤية بصرية؛ بل سيراه بفؤاده، وسيحدث ذلك حين يقلب قول أبيه في فؤاده؛ متأثرًا بعقله؛ وما في نفسه من إيمان بالله – تعالى ـ.
﴿ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ ﴾ يعني انظر بفؤادك، وليس بعينيك؛ فالرؤية هنا ليست بالعين.
إنما المراد هو أن يتفكر، ويدرك دلالاته، مصحوبًا بالعقل، ومشاعر الإيمان بالله؛ ثم قل ما تراه بعد ذلك..
من الآية نستنبط ما يلي
لكي يفكر الإنسان، ويستنبط…فإنَّه (وفي كل الأحوال) يحتاج إلى النظر؛ لأنَّ النظر هو الاهتمام والتركيز في الشئ.
وهذا دليل على أنَّ النظر ليس قاصرًا على العين فقط؛ بل يسبق البصر، والسمع، والحس، (بالجلود) والنظر يعقبه الإدراك.
نعم النظر يسبق كذلك: السمع، والحس بالجلود، مثل: التذوق؛ فلكي يتمكن الإنسان، أو يحس؛ فلا بد له أن ينظر (ليس نظر بالعين) إلى الصوت، أو إلى الشئ الذي يتذوقه.
فعلى سبيل المثال: العين إذا توجهت إلى الشئ؛ فذلك لا يعني أنَّ الإنسان صار (حتمًا) يُبصره، والأذن إذا حدث في محيطها صوت؛ فإن ذلك لا يعني أنَّ الإنسان صار (حتمًا) يسمع الصوت ويدرك معانيه؛ فلا بد من أن يسبق ذلك كله: النظر (أي الإهتمام، والتركيز ) .
ونجد في قول الله – تعالى – : ﴿ وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ (١٧٩) ﴾ الأعراف.
فالآية الكريمة تُبين لنا: أنَّ وجود العين ليس دليلًا على حتمية حدوث البصر، ووجود الأذن ليس دليلًا على حتمية حدوث السمع، ولكن لا بد من النظر أثناء توجيه العين؛ ولا بد من النظر إلى القول (التركيز فيه) حتى تتمكن الأذن من نقل الصوت إلى الفؤاد فيُدركه الإنسان.
وقول الله – تعالى – : ﴿ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا ﴾ يؤكد أنَّ تذوق الألفاظ، وإدراك دلالاتها، والتذكر؛ يتم من خلال العقل.
أما الفؤاد فهو ما يتم فيه الإدراك، والعمليات الحسابية من خلال النظر.
وتعي النفس كل ذلك؛ لأنَّها هي المُحركة، وصاحبة الرغبة، والإرادة، وصاحبة القرار.
وقد بيَّن لنا القرءان أنَّ من يعقل هو القلب، وليس الفؤاد؛ قال الله – تعالى – : ﴿ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ (٤٦) ﴾ الحج.
ومن الآيات التي تؤكد أنَّ النظر ليس هو البصر
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (٧٧) ﴾ آل عمران؛ النظر هنا لا يعني البصر لأن الله بصير، ولكن معنى الآية: أنَّ الله – تعالى – لا يستجيب لهم.
﴿ ٱنظُرۡ كَيۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ سَبِيلٗا (٤٨) وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدٗا (٤٩) ﴾ الإسراء؛ أي ينظر بفؤاده وليس بالعين، وذلك من الأدلة على أنَّ النظر هو التركيز.
إنَّ الله – تعالى – يأمر النبي ﷺ للنظر فيما قالوه حين ضربوا له الأمثال.
إنه النظر فيما جاء عن طريق الأذن والسمع، وليس العين والبصر (يتبين قولهم، ويعي المراد منه).
ولتعريف النظر
النظر هو أن يُوجه الإنسانُ فؤاده إلى الشئ الذي يريد أن يراه؛ سواء كانت الرؤية بصرية، أو سمعية، أو عن طريق الجلود (رؤية حسية مجردة).
كيف يحدث النظر، والبصر حسب ما نتبينه من القرءان الكريم؟
النظر، والبصر، وبلاغة البيان في القرءان..
قول الله – تعالى – : ﴿ وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ لَا يَسۡمَعُواْۖ وَتَرَىٰهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ وَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ (١٩٨) ﴾ الأعراف.
إن كان البصر لا يتحقق إلَّا بعد النظر؛ فلماذا جاء لفظ البصر منفيًا، وجاء لفظ النظر مُثبتًا؟!
الله – تعالى – لم يقل: (ينظرون إليك وهم لا يبصرون) ولكن قال: ﴿ وَتَرَىٰهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ وَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ ﴾ وذلك من دقة القرءان البالغة؛ لأنَّ القرءان يُثبت (دائمًا) أنَّه إذا حدث النظر سيحدث البصر، وإذا لم يحدث النظر لن يعقبه بصر.
الإنسان حين يتدبر القرءان؛ لمعرفة مراد الله من الآية؛ فعليه أن ينظر إلى الآية كاملة، وليس إلى جزء منها..
لذلك علينا أن نستنبط المعنى من خلال لفظ: ﴿ وتراهم ﴾ في الآية الكريمة: ﴿ وَتَرَىٰهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ وَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ ﴾.
حينها سيتبين أنَّه حين أُثبت النظر، ونُفى البصر، لم يحدث اختلاف بين الآية مع الآيات الأخرى؛ التي تؤكد أنَّ البصر لا يتم دون نظر؛ أي دون توجيه العين بإهتمام وتركيز.
فجاء جاء لفظ: ﴿ يَنظرون ﴾ مُثبتًا (مع نفي حدوث عملية الإبصار) سُبق لفظ: ﴿ ينظرون ﴾ بلفظ: ﴿ وتراهم ﴾ لئلا يؤدي ذلك إلى حدوث اختلاف في فقه معنى لفظي: (يَنظر، يُبصر).
كيف ذلك؟
لفظُ: ﴿ وتراهم ﴾ في الآية عاد على النبي ﷺ ودوره أن يبين لنا ما يلي:
أنَّ النبي ﷺ حين رءاهم يوجهون أعينهم إليه؛ بدا له (أي ظن) أنهم يَنظرون إليه حقًا؛ وبالتالي يُبصرونه؛ لكن الله – تعالى – (عالم الغيب) نفى عنهم البصر (أي لم يُبصروا النبي ﷺ) لأنهم لم يَنظروا إليه يقينًا.
النبي ﷺ لا يعلم الغيب؛ فلم يعلم أنهم كانوا يوجهون أعينهم إليه دون اهتمام، أو تركيز؛ فلم يتحقق النظر منهم (يقينًا) وبالتالي: لم يُبصروه (كذلك أنبأه الله).
ومن هنا تظهر دقة القرءان ويظهر الفرق بين: (يَنظر، ويُبصر) بشكل لا يتغير خلال الآيات وهو: أنَّ البصر لا يتحقق دون نظر (تركيز) يسبقه (دائمًا) ويستمر معه.
أي دون النظر لن يحدث بصر، وليس كل عين موجهة إلى شئ؛ هي في حقيقة الأمر تُبصره.
وللإجابة على سؤال: لماذا لفظ: (يَنظرون) جاء بياء مفتوحة، ولفظ: (يُبصرون) جاء بياء مضمومة؟
ذلك مما أراه من بلاغة البيان في القرءان وعلم الخالق بخلقه..
لأنَّ النظر يكون بمحض إرادة الإنسان؛ فالإنسان هو من يقرر أن يوجه عينيه إلى شئ (ما) باهتمام، وتركيز، أو لا يوجهها من الأصل.
وماذا عن الإبصار؟
الإبصار أمره مختلف عن النظر؛ لأنَّه إذا نظر الإنسان إلى شئ؛ فإنَّه ينظر بإرادته، لكن عملية الإبصار تتم بإرادة الله ـ تعالى ـ وحده.
ما المراد بذلك؟
النظر تم بإرادة الإنسان، أما الإبصار فقط تم دون إرادة الإنسان.
لأن الإنسان هو من يتحكم في أن ينظر، أو لا ينظر (يركز، أو لا يركز).
لكن عمليه الإبصار تتم بواسطة مكونات داخل جسم الإنسان: من العين، والأعصاب، وقرنية العين، والشبكية.. دون تدخل من صاحبها في كيفية عملها، تمامًا كما أنَّ الإنسان لا يتدخل في ضربات القلب، والدورة الدموية، وعمل الأعصاب..
لذلك فإن الإبصار لا يكون بإرادة من الإنسان.
وقد يحدث اختلال في تلك المكونات أو في عملها؛ وقد يصير الإنسان نتيجة لذلك أعمي (لا يُبصر).
إذًاَ لفظ: ﴿ يُبصر ﴾ في الآية الكريمة جاء حرفه الأول (الياء) مضمومًا؛ ليؤكد أنَّ الإبصار يتم بقدرة الله وحده، وليس بقدرة الإنسان.
لماذا ليس بقدرة الإنسان إذا نظر للشئ؟
لقد فرقنا بين النظر والبصر..
الإنسن ليس هو المسئول عن كيفية عمل العين، أو تكوين صورة الشئ في فؤاده.
بينما لفظ: ﴿ يَنظرون ﴾ جاء فيه الحرف الأول وهو (الياء) مفتوحًا؛ ليؤكد أنَّ النظر يتم بإرادة الإنسان (بعد مشيئة الله ـ تعالى ـ) .
والله أعلم.