من الناس من ظن أنَّ النبأ يعني (فقط) حدوث الشئ في المستقبل، وأنه ليس له علاقة بعلم الغيب!
وقد استشهدوا على قولهم هذا بالآيات التي تتحدث عن رؤيا الملك في سورة يوسف..
﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ (46)
قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ (49) ﴾ يوسف.
فقالوا: النبأ حسب الآيات هو أن تتحول تلك الرؤية في المستقبل إلى واقع؟!
واستشهدوا كذلك بقول الله ـ تعالى ـ : ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ
أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ (100) ﴾ يوسف.
فقالوا: الرؤية كانت في الماضي حين كان سيدنا يوسف صغيرًا؛ ثم تحققت بعد سنين؛ وهذا دليل على أنَّ النبأ هو تحقق الشئ في المستقبل، وليس له تعريف ءاخر؟!
اختلف معهم فيما قالوه؛ فهم لم يتبينوا كل ءايات القرءان؛ وبالتالي: تكون رؤيتهم عن النبأ خاطئة.
ولتصويب هذه الرؤية عن تعريف النبأ؛ سنستشهد بآيات أخرى كانت أحداثها في الماضي، وقد ذكرها القرءان على أنها من الأنباء.
وسيكون في ذلك دليلًا على أنَّ النبأ ليس له علاقة بزمن الحدث؛ سواء كان في الماضي، أو المستقبل..
ما هو المراد بلفظ: (النبأ) حسب ما جاء في القرءان الكريم؟
النبأ هو ـ فقط ـ نقل علم من الغيب؛ سواء كان عن أحداث في المستقبل، أو في الماضي إلى مدارك الإنسان.. ذلك العلم الذي يُنبأ به؛ لا يعلمه من يُنبأ به، ولا يتوقعه، ولا يدري به من الأصل..
فهو ليس كالخبر الذي يأتي كعلم ـ معلومات عن شئ ما، لدى الناس علمًا مسبقًا به..
أي أنَّ الخبر هو أن يأتي مزيد من المعلومات عن الشئ الذي علم به الناس من قبل.
لكن النبأ هو ما يحدثهم عن شئ لا يعلمون عنه شيئًا، ولا يخطر على بالهم أبدًا.
وبالتالي حين نطرح السؤال:
هل النبأ هو ما يتحقق في المستقبل فقط، وليس له علاقة بأحداث تمت في الماضي؟!
ستكون الإجابة: بالتأكيد؛ لا.
وما دليلك على ذلك؟
الدليل هو ما جاء في سورة الكهف عن العبد الصالح وسيدنا موسى.
نعلم أنَّ سيدنا موسى مرت أمامه أحداث لم يعلم بأسبابها، مثل: خرق السفينة.
وبعد أن جاء وقت الفراق بين العبد الصالح وسيدنا موسى؛ ماذا قال له العبد الصالح؟
﴿ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا (78) ﴾ سيُنبئه عن أحداث مضت (أي حدثت بالفعل) وليست مستقبلية ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا ﴾ أي بأسباب ما حدث أمامك ـ في الماضي ـ.
فأخذ العبد الصالح يُنبئ موسى ـ عليه السلام ـ بأسباب تلك الأحداث قائلًا: ﴿ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا (79) وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا (80) فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ
زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا (81) وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا (82) ﴾ الكهف.
هذا أراه من الأدلة التي نتبين منها أنَّ النبأ ليس له علاقة بزمن الحدث، ولكن هو علم غيب، لم يعلمه الإنسان من قبل، ولا يتوقعه، ولا يدري عنه شيئًا؛ لهذا فهو نبأ ـ يُنبأ به ـ.
ويتأكد لنا هذا المعنى من قول الله ـ تعالى ـ : ﴿ ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ (44) ﴾ آل عمران.
لا شك أنها كانت أحداث في الماضي؛ حدثت قبل مولد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وليس بعد مولده (في المستقبل).
الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يُنبأ بما حدث في الماضي فيما يتعلق بالسيدة مريم ومن يكفلها؛ أي أنَّ النبأ كان عن أحداث ماضية، وليست أحداثًا مستقبلية.
وبهذا نتبين خطأ من قالوا: إنَّ النبأ هو حدوث الشئ في المستقبل فقط؛ حيث خرجوا عن دلالته الحقة التي تتعلق بالعلم، وليس بالزمن.
ونقول لهم حسب ءايات القرءان الكريم: النبأ هو علم من الغيب، وليس له علاقة بزمن الحدث (حدث بالفعل، أم لم يحدث بعد).